رياض عصمت
في زمن الأزمات، كثيرا ما تعمد الأنظمة الحاكمة إلى التفريق بين البشر مستخدمة وسائل الاتصال الجماهيري، وكذلك لا تتورع أن تفعل المعارضة التي تمتلك وسائل إعلامية مشابهة. في ظرف كهذا، تصبح مسؤولية الثقافة مضاعفة لبناء جسور تفاهم عبر الهوة وإعادة توحيد أبناء الأمة الواحدة قبل أن يفتتها الخلاف.
تلك هي جذور المواجهة الأزلية بين الإعلام والثقافة. يعنى الإعلام بالمصالح، بينما تعنى الثقافة بالمبادئ. يركز الإعلام اهتمامه على المتغيرات، بينما تركز الثقافة على الثوابت. يضع الإعلام نصب عينيه الوضع الراهن، أما الثقافة فترنو إلى المستقبل. يعنى الإعلام بما هو آني، بينما تعنى الثقافة بما هو خالد. يأمل الإعلام في مجرد حسن الأداء، أما الثقافة فلا تقبل بما هو أقل من الإبداع المطلق.
ظلت الخلافات قائمة طويلا بين الثقافة والإعلام، المستتر منها أكثر من الظاهر، تماما مثل هيكل سفينة عائمة على الماء يظهر منها للعيان أقل مما هو مختف. يلاحظ الناس أن المعلن عنه صراحة يقتصر ربما على التدخل لمنع نشر كتاب أو عرض مسرحية أو فيلم سينمائي بدعوى عدم ملاءمته للمفاهيم السياسية السائدة، وهو أمر يعامل كالكفر المبين.
بالتالي، فالوصاية الإعلامية على الثقافة والفنون هي وصاية تحاول إقناع المبدعين بالالتزام بالتوجهات المسيسة والملتزمة، إذ دأب الإبداع في الرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرح والسينما، وحتى في الدراما التلفزيونية، على تحدي السائد ومناوءة المسلم به، وعلى مقاربات فنية/أدبية فيها من الجرأة القدر الكبير.
تكمن أهمية الثقافة في أنها خط الدفاع الأول عن الحق والمشروعية والحرية والعدالة. لذلك، تعتبر الثقافة، لا الإعلام، هي المسؤول الأول عن تأسيس الوعي لدى جيل الشباب، والوعي هو دعامة تماسك المجتمع ووسيلة تطوره السليم.
في زمن الحروب الأهلية، يسارع الإعلام لبث الأوهام وإزكاء الأحلام من أجل غاية، أما الثقافة فتتحرى الحقيقة دون أن تتوقف عن الانتقاد والمناداة بالإصلاح. تحاول الثقافة الامتناع عن التورط في الدعائية، وتتريث طويلا قبل إصدار الأحكام حتى انتهاء الأزمة وتبين الخيط الأبيض من الأسود. لذلك، فإن الثقافة تتابع مهمتها في الترفيه والتنوير دون التورط بالمباشر والراهن.
خلال الحرب العالمية الثانية، بينما كانت الطائرات الألمانية تغير على لندن وتقصفها، لم يتوقف الناس عن الذهاب إلى المسرح لرؤية لورنس أوليفييه يمثل مسرحية شكسبير. حين كانت تدوي صفارات الإنذار، كان الجمهور اللندني ينزل إلى الملاجئ، لكنه كان يعود بعد انتهاء الغارة الألمانية لمتابعة بقية المسرحية. لم تتوقف الحياة في إنكلترا بسبب القصف والعدوان، بل ظل النصر المعنوي سباقا على الانتصار العسكري، وكامنا في تصميم الناس على متابعة نمط حياتهم المألوف.
بالتالي، فإن صمود الثقافة وأدائها لدورها الطبيعي في رفع الروح المعنوية للشعب، وإراحة النفوس القلقة من كوابيس الموت والدمار، هو المقدمة للانتصار الحقيقي، بعيدا عن دعائية الإعلام الموجه بشكل صارخٍ ومباشر.
خلال الحروب الأهلية أيضا يصبح من أولويات الواجب الثقافي العمل على التواصل مع فئات المجتمع كافة للتذكير بأمور مشتركة بناءة بين الجانبين المتصارعين، مثل وحدة التاريخ والمصير، موضحا الثراء الكامن في تعدد أطياف المجتمع مثل قطعة الموازييك، ومركزا على إحياء القيم الوطنية باستعادة عبرٍ مستخلصة من تاريخ الأمة العريق، كحكمة ابن خلدون وانتصارات صلاح الدين الأيوبي، شاء من شاء، وأبى من أبى.
يعبر موقف الثقافة هذا عن تمسك المبدعين الوطنيين بكل ما هو نبيل في تاريخهم، بل وبكل ما هو كفيل بلئم الجراح، لأنه من المحتم على كل أزمة أن تنتهي مهما طال أمدها. يجب ألا يعمي هدف إنهاء الأزمة الأنظار عن إنجازات الثقافة وإبداعات الفنون، فما يروج له الإعلام زائل، وإنجازات الثقافة باقية.
يروى أنه سادت مصر عقب قيام ثورة تموز/يوليو 1952 فكرة لحظر أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم بوصفهم رموزا تمثل العهد الملكي البائد. عندما وصل الخبر سمع الرئيس جمال عبد الناصر، أمر برفع أي شكل من أشكال الحظر والاضطهاد عن أولئك المبدعين الكبار، فكسب بذلك إبداعهم، بل ووظفه للإسهام بدعاية مباشرة أو مستترة.
بغض النظر عن القمع الاستخباراتي، عندما اعتزمت سلطات الإعلام والأمن في مصر معاقبة الشاعر الكبير نزار قباني بسبب قصيدته السياسية الجريئة “هوامش على دفتر النكسة”، اشتكى الشاعر السوري برسالة لجمال عبد الناصر، فأمر بمعاملته بالشكل اللائق الذي كان يعامل به من قبل، مما جعل نزار قباني يرثيه عند وفاته بقصيدة لم يرث بها أحدا سواه في حياته الشعرية كلها.
جرى أمر مشابه حين منعت الرقابة ديوان الشاعر أمل دنقل، بينما أوعز عبد الناصر عندما اشتكى الشاعر إليه، سامحا بنشر قصيدته التي استخدم فيها الإسقاط التاريخي عبر هجائه للوزير كافور، فأثبت بذلك القرار الذكي بطلان المقارنة مع كافور الأخشيدي، مثبتا أن ذهنه أكثر انفتاحا من أذهان رؤساء الأجهزة الإعلامية والأمنية من حوله.
يتجلى وعي المسؤول الثقافي الناجح عبر الانفتاح على الرأي الآخر، ومدّ اليد لمصافحة الإبداع الجيد حتى لو أتى من معارضين، ورفض الإبداع الرديء حتى وإن أتى من موالين. الثقافة الحقيقية الخالدة قائمة على الاختلاف والتنوع في الرأي، وهي لا تتطور حسب توجيهات وأوامر عليا أو من خلال وصفات جاهزة من سلطة حاكمة، أو من معارضة طامحة لإحداث تغيير ما. إن وزارات الثقافة عموما لا تصنع ثقافة، فواجبها ومهمتها يقتصران على خلق تربة خصبة تصلح لإنتاج الثقافة، وليس تولي احتكار صنعها حسب قوالب جاهزة. إن الإبداع لا يمكن تطويره بقرارات رسمية، بل نجده يسوَّق ويروَّج ويحتفى به غالبا من قبل مبدعين يشغلون مناصب ثقافية، هم الأقدر على استيعاب التنوع والتعددية، وعلى تقبل مشروعية الاختلاف.
لذلك أيضا، فإن نجاح أية إدارة ثقافية يكمن في وضعها الأطر الملائمة لتشجيع المبدعين وخلق مناخات إبداع ملائمة عبر إتاحتها فسحة واسعة من الحرية. كما يتجلى تكريم الإبداع في احترام جرأته وصراحته ونقده البناء، وعدم استهجان جرأته وصراحته.
لذلك، يخطئ من يعتقد أنه يمكن أن توضع للثقافة قوانين صارمة، لأن النتيجة الحتمية تصبح تهميش الثقافة وإتباعها لغرضية لا تلائم مناخ الحرية والإصلاح. كانت الثقافة وستبقى فاعلا، وليس مفعولا به، لأن الفارق شاسع بين الإبداع والاتباع.
لا بد أن يدرك المسؤول عاجلا أم آجلا الخطأ في اعتماد التجنيد للموالين أو التخوين للمعارضين، لأن واجب إدارة الثقافة أن تضحي بالآني من المكاسب السياسية السطحية من أجل ما هو مستقبلي وخالد من قيم سامية، بالأخص عبر الاحتفاء بالأعمال الطليعية الرائدة، التي تستشرف المستقبل وتتوجه إلى الجيل الجديد من الشباب بمزيجٍ من الإمتاع والتنوير.
الحرة