السلايدر الرئيسيتحقيقات
“نورما” تكشف عورات البنية التحتيّة اللبنانيّة المهترئة… و”الجنرال الأبيض” يفرض سطوته على البلد!
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ مع بدء عمليّة العدّ العكسيّ لموعد انحسار العاصفة “نورما” خلال الساعات المتبقِّية من اليوم الأربعاء إيذانًا بترقُّب بدء ظهور الحصيلة النهائيّة للأضرار التي خلَّفتها في أوساط الناس، ولا سيّما بعدما قُدِّر لها أن تفرِّغ على إيقاع شدَّة الرياح الهوجاء التي صاحَبتها من دون توقُّفٍ منذ نهار الأحد الماضي كلّ خيرات حمولتها من الأمطار الغزيرة والثلوج الكثيفة في عدّةِ دولٍ من منطقة الشرق الأوسط، فإنّ الأنظار ستتركَّز تلقائيًّا في الموازاة على ترقُّب ظهور أيِّ تفسيراتٍ منطقيّةٍ للأسباب التي أدَّت إلى تحوُّل نعمةِ خيراتِ الطبيعة إلى نقمةٍ في بلدٍ تمكَّنت هذه العاصفة من الكشف بسهولةٍ عن كافّة عورات بنيته التحتيّة المهترئة من مختلف جوانبها مثل لبنان، وذلك على رغم أنّ الإسراف في التفاؤل حيال إمكانيّة تقديم الحدّ الأدنى من تلك التفسيرات، وفقًا لتجاربَ مريرةٍ سابقةٍ، لا يزال يُعتبَر في ظلّ استمرار تسيُّد منطق الفساد في غالبيّة مؤسّسات الدولة ضربًا من ضروب الخيال.
هذا الاهتراء الذي درجت العادة على أن يتجسَّد سنويًّا في مشاهدَ بانوراميّةٍ محزِنةٍ ومحبِطةٍ ومخجِلةٍ لفيضانات الأنهار التي غمرَت المنازل وقضَت على المحاصيل الزراعيّة، وللسيول التي تسبَّبت بانهياراتٍ خطيرةٍ للتربة والصخور، وللمجاري التي حوَّلت الطرقات الرئيسيّة والشوارع الفرعيّة إلى ما يُشبه البحيرات، وللأمواج التي اجتاحَت اليابسة، وللأشجار التي اقتُلِعت من جذورها، سرعان ما أعطى المبرِّرات الكافية للتصويب على أداءِ حكومةِ تصريفِ أعمالٍ لم تسنَح لها الظروف السياسيّة المعروفة بأخْذ زمام المبادرة في الإعلان عن حالةِ طوارىءٍ تتناسَب مع هوْل تلك المشاهد التي كانت أقسى بكثيرٍ هذه السنة على المواطنين مقارنةً بأهوال السنوات الماضية، الأمر الذي ما لبث أن شكَّل مادّةً دسمةً اختلط فيها الحابل بالنابل على شاشات الفضائيّات المحلّيّة، علمًا أنّ الأمانة الأخلاقيّة تستوجب التأكيد على أنّه لولا الجهود الجبّارة التي بذلَتها الفرَق المختصَّة في المؤسّسة العسكريّة اللبنانيّة وغيرها من هيئات الإنقاذ والإغاثة لكان منسوب الخسائر والأضرار سيرتفع حتمًا عمّا هو عليه الآن بكثير.
وربّما كان مجرَّد إجراءِ جولةٍ واحدةٍ على نشرات الأخبار الليلة الفائتة يكفي للتعبير عن إرهاصات تزاوُج غضب الطبيعة مع غضب السياسة على طول الخريطة اللبنانيّة وعرضها، ولا سيّما إذا بدأنا من “تلفزيون لبنان” الذي استهلّ نشرته بالقول: “الثلجُ يلامِس الخمسمائةَ مترٍ والموجُ يرتفع إلى خمسةَ عشرَ مترًا، وطريقُ ضهر البيدر أُقفِل من القوى الأمنيّة احترازًا، ونفقُ شكّا أيضًا من الناحية الشماليّة، والانهياراتُ كثيرةٌ في الجبال وعلى الطرق المرتفِعة ومياهُ الأمطار حوَّلت طرقًا عدَّةً ودوليّةً منها إلى بحيراتٍ فيما المدارسُ مقفلةٌ غدًا (اليوم) أيضًا”، مشيرًا إلى أنّه “رغم هذه الحال المواطنُ لا يكترث ويبقى متجوِّلًا والمشهدُ المضحِك استعمالُ زورقٍ مطّاطيٍّ على طريقٍ رئيسةٍ، أمّا ما تقرأه العين وتسمعه الأذن باستغرابٍ فهو قطعُ مياه الشرب عن البيوت لأنّ الينابيع فاضت”، ومنوِّهًا بأنّه “كان الأجدى بالسلطات المعنيّة إعلان حال طوارئ، غير أنّ ذلك يستلزم انعقاد مجلسِ وزراءٍ في ظلِّ حكومةِ تصريفِ أعمالٍ وحكومةٍ متعثِّرةِ الولادةِ بسبب المراوحة في طرح الأفكار والأوراق، وثمّة من يقول إنّ لا كلام قبل انعقاد القمّة العربيّة الاقتصاديّة في بيروت بعد أسبوعين، وثمّة أيضًا من يقول إنّ لا كلام عن الحكومة قبل انعقاد القمّة العربيّة في آذار” المقبل.
أمّا “تلفزيون إن بي إن”، فقد استهلّ نشرته بالإشارة إلى أنّ “العاصفة امتدّت من السماء إلى الأرض وبدت بوجهين متناقضين، خيراتٌ وفيرةٌ هطلت أمطارًا غزيرةً وثلوجًا نقيّةً فأثلَجت صدور وقلوب ونفوس الناس، لكنّ الأرض لم تكن بناها التحتيّة على القدر المطلوب، فتحوَّلت النعمة إلى نقمةٍ في غيرِ مكانٍ على امتداد لبنان”، غامِزًا من قناة أنّ “المنخفض الجوّيّ انسحب منخفضًا سياسيًّا وبرودةً قاسيةً تفتك بالملفّ الحكوميّ على وجه الخصوص”، ولافتًا إلى أنّه “إذا كان موعد انفراج الطقس معلومًا فإنّ موعد الانشراح الحكوميّ في عالم الغيب”.
في السياق نفسه، لفَت “تلفزيون المنار” إلى أنّ “أحوال كانون المناخيّة على كلِّ محاذيرها هي أفضل من تلك السياسيّة، فالتجمُّد يصيب مختلف العروق السياسيّة، والحكومة ما زالت في خبر كان”، بينما تطرَّق “تلفزيون أو تي في” إلى أنّه “إذا كان مشهد المياه المهدورة من جهةٍ، وعشرات السدود قيد الإنجاز من جهةٍ أخرى، يكرِّس بوضوحٍ تامٍّ صورة المشروعين المتناقضين على الساحة اللبنانيّة، فالتعويل يبقى كما العادة على الجيش والقوى الأمنيّة والدفاع المدنيّ والصليب الأحمر، وسائر الأجهزة المعنيّة بإنقاذ الناس، ليس من العاصفة، بل من إهمالِ طبقةٍ سياسيّةٍ شبهِ كاملةٍ”، وذلك بعدما كان التلفزيون نفسه قد استهلّ نشرته بالتساؤل: “يقولون عاصفة؟ هي ليست أكثر من مطرٍ غزيرٍ هنا وثلوجٍ هناك. هي شهادة فسادِ وإفلاسِ الدولة ومجلس الإنماء والإعمار ووزارة الأشغال وغيرها”.
ولعلّ أكثر ما كان لافتًا على هامش محاولات تسييس العاصفة تمثَّل في عدم تفويت “تلفزيون المستقبل” فرصة توجيه انتقادٍ لاذعٍ للرئيس السوريّ بشّار الأسد في سياق نشرته الإخباريّة عندما أشار إلى أنّ “مخيّمات النازحين الهاربين من جنرال الموت، تقبع تحت سطوة الجنرال الأبيض”، قبل أن يستطرد بالقول: “وغدًا ظهرًا (اليوم) يذوب ثلج العاصفة ويبان مرج الأضرار والمآسي التي خلَّفتها. لكنّ المأساة الحكوميّة مستمرّة”، بينما كان “تلفزيون الجديد” الأكثر بلاغةً في التعبير عن واقع الحال عندما قال: “اليوم تهديكم الطبيعة نتاج الزرع السياسيّ، فهذه البنى التحتيّة التي دُفِعت عليها الملايين. هذه جسورنا الواقفة على شفيرِ هاويةٍ. تلك طرقاتنا السابحة في خير الشتاء. هو ليس غضب الطبيعة بل هي طبيعة متعهِّدين لا تكشف الشمس فسادهم وترفع نورما عنهم الغطاء”، تمامًا مثلما كان “تلفزيون إل بي سي” متمايزًا أيضًا في بلاغة التعبير عندما أطلَق صرخته المدوِّية والمداوِية عن طريق تجديد القول: “هذه دولةٌ لا تحترم نفسها لأنّها لا تحترم شعبها”… وخيرُ الكلام ما قلّ ودلّ.