سمير عطا الله
أسوأ ما يمكن أن يحدث للصحافي أن يصبح هو الخبر، أو الخبر الرئيسي. الأسبوع الماضي نسيت ألمانيا أحداث العالم لكي تتابع أخبار كلاوس ريلوتيوس، أبرز محرري مجلة «دير شبيغل». لقد ارتكب كلاوس الخطيئة الأولى في الحياة وفي الصحافة: الخداع! تسلح بموهبة أدبية فائقة من أجل أن يزوّر أكثر القصص إثارة. اخترع أشخاصاً لا وجود لهم، وأجرى في الشوارع مقابلات صحافية مع أناس لم يلقهم إلا في المخيّلة. والمشكلة أن مخيّلة كلاوس كانت، كالعادة، أجمل من الوقائع. وفيما كان القرّاء ينتظرونه من أسبوع إلى أسبوع، كان مديرو التحرير يؤخذون هم أيضاً بتحقيقاته الساحرة، في حين أن المطلوب منهم التحقق من صحة الأقوال وصحة الأمكنة وصحة السفر إليها.
طردت «دير شبيغل» الزميل كلاوس بعد أن ألحق بها وبسمعتها العالمية، ضرراً لا يُنسى… ففي الصحف والمجلات العالمية التي من هذه الطبقة، هناك أقسام برمّتها مهمتها فقط ما يسمى «تدقيق الحقائق». ويشغل هذه الأقسام عادة صحافيون ناشئون، أو متدربون، لكن إدارتها تُسلَّم إلى المَهَرَة والخبراء وأهل العلم. وقد خدع كلاوس جميع هؤلاء. وكما أن لكل خدعة نهاية، فقد جاءت فضيحته من مكان لا يتوقعه على الإطلاق. أوفدته المجلة لكي يكتب تحقيقاً من بلدة أميركية صغيرة تدعى فرغس فولز.
اقتضت المهمة أن يمضي في البلدة شهراً كاملاً يتحدث إلى أهلها ويدرس ميولهم الاجتماعية والسياسية. وعندما ظهر مقاله في مارس (آذار) 2017 خطر لاثنين من مواطني البلدة؛ ميشال آندرسون وجيك كرون، ترجمته عن طريق «غوغل». وظن الاثنان، في البداية، أن ثمة خطأ في الترجمة، فأرسلاه إلى مترجم محترف. لكن الانطباع بقي واحداً. فمن أصل 7300 كلمة يتألف منها المقال، لم يكن صحيحاً سوى عدد السكان ومعدّل الحرارة السنوية. الباقي مخيّلة. ومن سوء حظ كلاوس أنه اتخذ موقفاً معادياً من البلدة، فصبّ عليها جام غضبه، وانتقد أهلها، وأحصى آندرسون وكراون 11 كذبة على الأقل لا وجود لها في المدينة… منها على سبيل المثال؛ حكاية امرأة قال إنها صاحبة مطعم من المكسيك أصيبت بفشل كلوي واسم ابنها الوحيد إسرائيل. وقد تبين في التدقيق أن المرأة عاملة في المطعم، وليست صاحبته، وأنها غير مصابة بأي مرض، وأن ابنها يدعى بابلو وليس إسرائيل.
لا بد من أن الزميل كلاوس كان يشعر بالملل والكآبة في تلك البلدة الصغيرة من ولاية مينيسوتا. لكن الغضب، للأسف، لا يبرر في العمل الصحافي أن تنسب إلى الناس أقوالاً لم تُقل، أو حتى أمراضاً لا تعاني منها. وفي نهاية المطاف، انكشف أمر الروائي الخامل، الذي يفضل الاعتماد على مخيلته بدل النزول إلى مكان الحدث. وهكذا، اضطر إلى الاستقالة والاعتذار من المجلة ومن القراء. ولعله سوف ينصرف، بعد الآن، إلى كتابة الرواية من دون أي تكليف صحافي أو مهني. فهذا أضمن له. وربما يكون أكثر كسباً أيضاً. ويعرف الزميل كلاوس أن مثل هذه التجارب تمر بأي واحدٍ من أهل المهنة. أو نحن نمر بها. والسعيد من تُسعفه مخيلته ويُسعفه حظه أيضاً في النجاة باستخدامها. وقد حدثت الخدعة الأدبية معي أكثر من مرة، وكان من حسن حظي، أن يكون رئيس التحرير هو غسان تويني، الذي تصرّف دائماً على أساس أن المخيّلة جميلة في أي حال.
الشرق الاوسط