أقلام مختارة

سوريا: لا بد من خطاب للهزيمة

حازم الأمين

حازم الأمين

يردنا النقاش حول هوية المنتخب السوري لكرة القدم، والمشارك في كأس آسيا في الإمارات العربية المتحدة، إلى سؤال حول مستقبل الخطاب المعارض في ظل فرص النظام المتعاظمة للنجاة من الجرائم التي ارتكبها.

فقد تكرر الانقسام حول هوية المنتخب وما إذا كان ممثلا لسوريا أم أنه منتخب النظام الذي يحكمها، أو “منتخب البراميل” على ما دأب معارضون على تسميته.

والنقاش هذه المرة جرى في ظل مرافقة الآلة الدعائية للنظام للمنتخب، منتجة أشرطة وأغان وأهازيج ربطت فيها بين تطلعها لفوز الفريق وبين التقاط بشار الأسد أنفاسه، وسقوط معارضيه في ميادين الحروب السورية الكثيرة.

وهذا الأمر أيقظ في كثيرين ما لم يكن يرغبون في استيقاظه في أنفسهم، ذاك أن وظيفة المادة الدعائية المرافقة لأنشطة المنتخب لم تستهدف رفده بالمعنويات بقدر ما كانت سعيا لتثبيت وجه بشار الأسد صورة “أبدية” لسوريا، وهذا فعلا ما يستدرج انفعالا بعد كل هذه الدماء المراقة في ظل صورة الرئيس.

لكن الانقسام السوري حول هوية المنتخب لا يبدو هذه المرة تكرارا لما رافق أنشطة المنتخب في السنوات السابقة، ذاك أنه يجري اليوم بصفته أفقا لحقيقة أن النظام قد نجا، وأن سوريا عادت “سوريا الأسد”، والنظام فيها لا يملك ثقافة علاقة مختلفة مع الناس.

سوريا هي “سوريا الأسد”، لا شيء آخر، ولا صورة أخرى. المنتخب بحسب هذا النظام هو منتخب الرئيس الناجي من الجرائم الكبرى. لا يملك النظام لغة أخرى، ولا خبرة أخرى، وهو إذ أرسل آلته الدعائية مع المنتخب، لم يفعل ذلك لرفد الأخير بالمعنويات، إنما لإشعار السوريين بأنه قدرهم.

لكن في مقابل هذه الشراهة الانتقامية، لا يبدو أن لدى الخطاب المعارض ما يقوله حيال هذا المشهد. “منتخب البراميل” مجرد تعبير غاضب، ولا يمكن اعتباره خطابا. المهمة صعبة ومؤلمة، إذ أن هزيمة كبرى أصابت قضية تملك هذا القدر من العدالة، والمطلوب اليوم من أصحاب هذه القضية إنتاج خطاب للهزيمة، ورسم وجهة لها.

وفي مقابل الصعوبة التي تلامس المستحيل، لا يمكن التنصل من المهمة. لا بد من صياغة خطاب الهزيمة، ومن تحديد خطوط لها. محطة المنتخب ستتكرر بصيغ أخرى، وسوريا عادت “سوريا الأسد” على رغم المرارة الهائلة التي ترافق اعتراف المرء بذلك! إذا ماذا نفعل؟ هل ننفصل عنها ونغادر سوريتنا إلى الأبد؟ قد يكون ذلك خيار أفراد متاح لهم أن يقدموا عليه، لكن ماذا عن غير الراغبين بهذا الخيار، أو غير القادرين عليه، وهؤلاء وأولئك هم غالبية السوريين ممن يخنقهم استعادة النظام بلدهم.

لا بد للهزيمة من خطاب. لا يمكن ترك الناس من دون لغة يصيغون فيها مأساتهم وحكايتهم. الأقدار شديدة القسوة، والسوريون متروكون لمخيمات نزوح بائسة، ولنظام يصفق للمنتخب احتفالا بموتهم. المهمة صعبة ومؤلمة، لكن لا خيار آخر. المعادلة تشبه في قسوتها صورة مخيم للنازحين محاصر بالثلوج. قبل سنوات قليلة كان لهذه الصورة ولهذه المأساة وظيفة. كان إسقاط النظام أفقا يُخفف من أهوال الصورة، وشكل نشرها في وجه العالم أملا في مستقبل مختلف لأهل المخيم. الصورة اليوم لا تقول شيئا. أهل المخيم المحاصرين بالثلوج وبالبرد والجوع هم أهل المخيم فقط. هذا قدرهم، ولا مستقبل لهم في غير هذا المخيم. وبهذا المعنى تبدو الدعوات لإغاثتهم هي دعوات لتمديد عمر المأساة.

تبدو مهمة إنتاج “خطاب الهزيمة” على هذا القدر من الصعوبة. هي أقرب إلى خنق إرادي للنفس. الخطوة اليائسة التي نقدم عليها لتفادي الانتحار. وعلى رغم ذلك لا بد من صياغة هذا الخطاب. فالهزيمة مجلجلة، والعالم تآمر فعلا مع القاتل. ربما كان علينا الاستعانة بخبرات مهزومين قبلنا. والأرجح أننا لن نعثر على لحظة اختلال للعدالة تقارب أو تشبه اللحظة التي نشهدها في سوريا.

ربما علينا أن نفاوض على صمتنا. العودة مقابل الصمت. النظام لن يقبل طبعا، وهو سبق له أن قتل صامتين، وأن اجتث “أعداء موضوعيين”، لكن طلب مقايضة الصمت بالعودة قد يبدو أفقا منطقيا يمكن أن ترعاه إرادات أممية بائسة، في موازاة رعايتها عودة النظام ونجاته من خطوطها الحمر.

وربما علينا هنا أن نقول إن الصمت ليس قبولا، هو مجرد استسلام، وإن العودة إلى زمن ما قبل الانتفاضة لم يعد ممكنا، ذاك أن النوايا اختبرت، ونصف مليون قتيل ليس رقما عابرا.

الصمت هو انتظار، وهو ما يمارسه كثيرون اليوم. ربما علينا أن نطلب من العالم ضمانات لحمايتنا مقابل صمتنا. وربما علينا أن نغادر، ذاك أن تحمل الصمت مهمة شاقة فعلا.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق