فارس خشّان
أكثر ما يلفت انتباه من يجوّل في لبنان هو نمو الطائفية، بشكل غير مسبوق. مفارق الطرق تنبئ بذلك، والتلال ومرافئ الصيادين، كما أنّ بعض الصاغة استغنى، ترويجا لمجوهراته، عن خدمات النجوم بشفاعة القديسين.
ويثير ذلك شكوكا كبيرة في إمكان أن يجد العلمانيون، أي أولئك الذين يفصلون بين ملكوت السماوات وبين “ممالك الأرض”، موطئ قدم لهم، في” بلاد الأرز”، حيث اللغة الوطنية لا تستقيم بلا أبعاد طائفية، لأنه في مسار مماثل، لا يمكن أن تدخل في رحاب الوطن، من دون مفتاح طائفي.
والطوائف يتعاون بعضها مع البعض الآخر، فالسياسيون، وبمباركة من القادة الدينيين، يقسّمون اللبنانيين ويتقاسمونهم، ويعتبرون أنهم بذلك يحفظون استقرار الوطن وكرامة المواطن ويضمنون المستقبل ويزرعون في دربه الورود.
والتوزيع الطائفي الذي اعتمده “بناة الاستقلال”، مؤقتا، وأكد على “مؤقته” واضعو اتفاق الطائف الذي على أساسه جرى تعديل الدستور لوقف الحرب التي استمرت من ربيع العام 1975 حتى خريف العام 1990، ـ هذا التوزيع ـ أصبح واقعا دائما، إذ إنه بدل إلغائه من النصوص أصبح راسخا في النفوس.
وكل من حاول تقديم مرتبة الوطن على الطائفة، جوبه بموجة من الويل والثبور وعظائم الأمور، واتهم بأنه من العاملين على إعادة لبنان إلى الحرب. هذه الحرب التي كانوا قد أجمعوا على اعتبارها صناعة خارجية بأهداف إقليمية، وأنها لم تكن أبدا بين أبناء الوطن الواحد “المتعايشين منذ أبد الآبدين”.
والاعتدال في لبنان الذي يشيد به الجميع ويدّعيه الجميع، لا يعدو كونه تعاونا بين المكونات الطائفية التي تلغي كل مساحة يمكن أن ينمو فيها من قرّر، لسبب أو لآخر، أن يخدم وطنه من خارج المعايير الطائفية.
والاعتدال بالمفهوم اللبناني لا يعني بأي حال من الأحوال خروجا عن القواعد المتجمدة التي يضعها عتاة المتدينين، فانتسابك إلى السياسة، كما مدخلها كذلك بيت قصيدها، هو الطائفة بقواعدها تلك.
ولهذا فأنت لا يمكنك، مهما كان مبررك، أن تخطو خطوة في اتجاه الآخر، من دون أن تلتزم بالقواعد المفروضة، كما لا يمكنك أن تتراجع عنها، من دون أن تراعي القواعد النقيضة التي لا تقل قسوة.
وفي بيت العنكبوت هذا وجدت النائبة رلى طبش، وهي من المذهب السني، نفسها.
على قاعدة الصلاة من أجل السلام، ذهبت إلى الكنيسة وشاركت في قداس، وفق الطقس الماروني، واقترفت “خطيئتها المميتة” عندما تقدمت من الكاهن، في أثناء المناولة، وتباركت من الكأس التي تحمل “جسد المسيح”.
وكأنها شيخ دين، وليست نائبا في البرلمان “يمثل الأمة جمعاء ولا يجوز أن تربط وكالته بقيد أو شرط من قبل منتخبيه”(وفق النص الدستوري)، استدعيت، بعد حملة شعواء عليها، إلى دار الفتوى (مرجعيتها الدينية) حيث “اعتذرت من الله”، في بيان ديني بليغ، عمّا فعلته في الكنيسة.
ومن يقرأ “أدبيات الاعتذار”، يشك في أن هذه النائبة التي اندمجت في الطقس الماروني حتى تباركت بكأس القربان، تعرف أن تصوغها، فلغة البيان وسبكته ومضامينه، تشبه إماما وليس نائبا في مقتبل عمرها، تحاول أن تنقذ نفسها، كما التيار السياسي الذي تنتمي إليه، من تخوين لم يعد يحتمله، بعدما اضطرته التطورات المتلاحقة أن يترك موقع قيادة طائفته إلى موقع الالتحاق بها.
والتدقيق يُظهر قبول النائبة طبش بالبيان، من دون أن تكون “والدته”، فهي، مثلا، لم تضعه على صفحاتها المتوافرة في مواقع التواصل الاجتماعي، على الرغم من أنّها نشرت أمورا كثيرة تتصل بالدفاع عن مشاركتها في القداس، من جهة واعتزازها، في آن بإسلامها، من جهة أخرى.
ولكانت “المشكلة” قد هانت لو أن “الاضطراب” الطائفي قد توقف عند هذا الحد، بحيث يبدي جمهور “القداس” تفهمه لخلفيات اضطرار ” النائبة المباركة” على الاعتذار.
لكن عكس ذلك حصل، فغيرة الدين، هبت هذه المرة عند الطائفيين المسيحيين، فلعنوا بعدما باركوا، وغضبوا بعدما حلموا، وهجوا بعدما مدحوا، وقسوا بعدما حنوا.
وهكذا تحوّل القداس من محطة صلاة من أجل السلام، إلى خطوة جديدة في مسار صناعة النزاع، وبدل أن يَجمع المختلفين طائفيا في حضرة إلههم الواحد ليصبحوا واحدا أحدا على صورته ومثاله، زرع التنافر بينهم وقسّم الواحد الأحد على صورتهم ومثالهم.
وما حصل مع النائبة رلى الطبش، ليس سوى نموذج عن واقع مؤسف يفتقد إلى مقوّمات راسخة للعيش المشترك مع المختلف، سواء دينيا أم اجتماعيا، إذ أنه تبرز في هذا السياق مفاهيم شاذة للانفتاح، ولكن من موقع آخر، فإذا أراد البعض أن يقول عن مسلم بأنه غير متعصّب يستدل على ذلك من تعلقه بالكحول، وإذا شاء أن يتحدث عن “حضارية” مسلمة يستدل على ذلك بثيابها الجريئة، في المقابل إذا رغب أحدهم أن يقول عن مسيحي بأنه منفتح يلفت إلى أنه يحفظ آيات قرآنية، ويمتنع عن الكحول إذا حضر المسلمون، ويصون لسانه إذا رأى مسلمة.
وبذلك، يبدو أن الانفتاح هنا، مجرد خمر وعري، وهناك مجرّد لياقة وكياسة.
إنّ استخلاص دروس انقاذية من كل ذلك لا قيمة له، لأنّ وعظ من امتهنوا الوعظ لا يُجدي نفعا.
الحرة