أقلام مختارة

السينما مرآة العالم

رياض عصمت

رياض عصمت

انتهى قبل أسبوع إعلان جوائز “غولدن غلوب” السينمائية، وهي الجوائز التي تمنحها سنويا رابطة الصحفيين الأجانب، وتعتبر مؤشرا لجوائز الأوسكار القادمة بعدها بتاريخ 24 شهر فبراير/شباط 2019.

تعكس اختيارات “غولدن غلوب” الذوق السائد كالمرآة، ليس بالضرورة ذوق الجمهور العريض، وإنما ذوق المختصين من عشاق الفن السابع، أولئك الذين يعتبرون السينما مثل قراءة كتاب، ويبحثون في كل فيلم عن الفكر والعبرة والرسالة.

لا تأبه بعض الأفلام الجادة بنيل استحسان عموم الناس، ففيلم كريستوفر نولان “دانكيرك” وفيلم ستيفن سبيلبرغ “لينكولن” لم يتمتعا بجماهيرية أفلام شركة “مارفل” المتخصصة بإنتاج أفلام الخيال العلمي، وإن نجحت بعض إنجازاتها أحيانا في نيل الاعتراف النقدي، وفي طليعتها مؤخرا “النمر الأسود”.

بالمقابل، نذكر بضعة أفلام فنية متميزة تفوقت في المسابقات على الأفلام التجارية الضخمة، منها فيلم المخرج أليخاندرو غونزاليس إيناريتو “الرجل الطائر” وفيلمه الآخر “العائد”، وكذلك فيلم المخرج غويليرمو ديل تورو “شكل الماء”.

في حفل “غولدن غلوب” للعام 2019، سلطت الأضواء على فوز مخرج مكسيكي ثالث هو ألفونسو كوارون عن فيلم “روما”، وهو فيلم مأساوي عن خادمة حامل، صور بالأسود والأبيض في منطقة من العاصمة المكسيكية تدعى “روما”، وليس له علاقة بالعاصمة الإيطالية الجميلة.

يذكرنا فيلم “روما” الجدير بجائزة أفضل فيلم أجنبي بروائع الواقعية الإيطالية الجديدة، كما يذكر نوعا ما بواقعية المخرج الهندي ساتياجيت راي والمخرج الياباني أكيرا كوروساوا في أفلامهما التي صورت بالأسود والأبيض. فيلم مقنع بواقعيته الشديدة، ينسى المشاهد أنه مؤدى من قبل ممثلين، بل يؤمن بشخصياته إيمانا مطلقا. أتوقع أن ينال “روما” في مسابقة الأوسكار جائزة أفضل فيلم أجنبي، لكنني أستبعد منح أوسكار أفضل مخرج إلى ألفونسو كوارون.

ينظر بعض الناس إلى السينما بوصفها أداة تسلية وترفيه، ويضعونها في مكانة هامشية في حياتهم، خاصة وأن الأفلام متاحة للجميع عبر محطات التلفزيون وشبكات الكيبل، و”نتفليكس”، و”أمازون” و”هولو” وسواها. أما أولئك الذين يكنون للسينما احتراما بوصفها أداة للتعبير الفني، فيرون في الأفلام رسائل اجتماعية وإنسانية وسياسية مهمة تعكس الوجدان السائد في حقبة من الزمن.

في الواقع، هناك فارق بين الأفلام التي تصنع بهدف الربح من شباك التذاكر، وبين الأفلام التي تصنع لتنافس على الجوائز وتحظى بثناء النقاد. لا شك أن روائع السينما الجادة لا تخلو من بعض الترفيه والإمتاع، كما لا تخلو بعض الأعمال التجارية ـ مثل الأفلام الموسيقية الاستعراضية وأفلام الخيال العلمي ـ من بعض اللمسات الدرامية المبهرة.

هنا، أود أن أذكر نماذج من المخرجين المعاصرين ممن استطاعوا المزاوجة بين سمتي المتعة والفن في آن معا: ستيفن سبيلبرغ (مخرج “امبراطورية الشمس”، “الحديقة الجوراسية”، “إي. تي.”، “قائمة شيندلر”، “اللون الأرجواني”، “جسر الجواسيس” و”ذا بوست”،) مارتن سكورسيزي (مخرج “سائق التكسي”، “عصابات نيويورك”، “هوغو”، “ذئب وول ستريت”، و”المغادرون”،) جيمس كاميرون (مخرج “المبيد 2″، “تايتانيك” و”آفاتار”،) بيتر جاكسون (مخرج سلسلة “سيد الخواتم” و”كينغ كونغ”،) كريستوفر نولان (مخرج أفضل ثلاثة أفلام من سلسلة “باتمان”، فضلاً عن “انسبشن” و”إنترستلر”).

بالتأكيد، تقودنا هذه الأسماء الخمسة إلى تذكر أسماء أخرى لمخرجين مبدعين أحببناهم في الماضي الجميل ممن حازوا جوائز “أوسكار” و”غولدن غلوب” و”كان” و”برلين” و”كارلو فيفاري” وسواها من مهرجانات عالمية، وفي الوقت نفسه نجحت أفلامهم تجاريا ونالت إعجاب الجمهور العريض.

تتميز مسابقة “غولدن غلوب” عن الأوسكار بمنحها جوائز للسينما والتلفزيون. كما نلاحظ انقسام جوائزها بين أفضل الأعمال الدرامية وأفضل الأعمال الكوميدية/الغنائية، بما فيها التمثيل لكل من الجنسين. بالمقابل، نلاحظ غياب الجوائز التقنية التي تحتفي الأكاديمية الأميركية للسينما بمنحها للتصوير والإضاءة والصوت وغيرها.

في عام 2019، انقسمت نتائج “غولدن غلوب” إلى ما هو متوقع، وما هو مفاجئ. الجوائز المتوقعة هي جائزة أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، التي ذهبت إلى فيلم “روما” المكسيكي. كذلك جائزة أفضل أغنية، ونالتها بجدارة ليدي غاغا عن دورها في فيلم “مولد نجمة”. أما جائزة أفضل تلحين موسيقي، فذهبت بصورة مستحقة إلى المؤلف جوستين هورويتز، (سبق أن أشرت إلى تميز تلحينه قبل حوالي شهرين في مقالي عن الفيلم).

نال جائزة أفضل فيلم رسوم متحركة فيلم “سبايدرمان في عالم العنكبوت”. أما جائزة أفضل ممثل كوميدي/موسيقي، فنالها كريستيان بيل بجدارة عن فيلم “النائب”، الذي تقمص فيه بصورة مذهلة شخصية ديك تشيني. كما كان فوز الممثلة المسرحية البريطانية القديرة أوليفيا كولمان متوقعا بجائزة أفضل ممثلة لدور كوميدي/موسيقي عن أدائها لدور الملكة في فيلم “المفضلة”.

نضيف إلى الأمور المتوقعة تكريم كل من النجم المخضرم جيف بريدجز (69 عاما) بجائزة سيسيل بي. دو ميل، وتكريم النجمة الكوميدية كارول بارنيت (85 عاما)، وقف الحضور مصفقين لكل منهما تحية لتاريخهما الطويل، وكذلك فعلوا لمجرد ظهور النجم الكبير ديك فان دايك (92 عاما) مع إميلي بلانت لتقديم فيلم “ماري بوبنز تعود” (2018)، الذي سبق أن لعب مع جولي أندروز بطولة النسخة القديمة منه عام 1964، بينما ظهر في النسخة الجديدة كضيف شرف.

أما قسم المفاجآت في “غولدن غلوب” هذا العام فكان غنيا جدا، من ضمنه فوز ألفونسو كوارون بجائزة أفضل مخرج متفوقا على عدد من المخرجين الموهوبين. كذلك ارتسمت علائم المفاجأة على وجوه بعض الفائزين، إذ بانت الدهشة واضحة على وجه الممثلة القديرة غلين كلوز عند إعلان فوزها بجائزة أفضل ممثلة عن فيلم “الزوجة”، وهي المرة الثالثة التي تفوز فيها بالجائزة نفسها.

يصور الفيلم تضحية زوجة بموهبتها دعما لزوجها الأديب الذي يفوز بجائزة “نوبل” للآداب رغم معرفتها بخيانته لها، وكان المتوقع أن تمنح جائزة التمثيل إما إلى ليدي غاغا عن أدائها المميز في “مولد نجمة”، أو إلى روزاموند بايك عن تجسيدها البارع لشخصية المراسلة الصحفية ماري كولفين في فيلم “حرب خاصة”.

من المفاجآت أيضا فوز الممثل الشاب الموهوب رامي مالك، ذي الأصل المصري، بجائزة أفضل ممثل عن دوره في فيلم “الرابسودي البوهيمية”، الذي أدى فيه دور مغني الروك الشهير الراحل فريدي ميركوري نجم فرقة “كوين” ذائعة الصيت، متفوقا بذلك على النجم برادلي كوبر في “مولد نجمة”.

من ناحية أخرى، حصل فيلم “كتاب أخضر” على جائزة أفضل عمل كوميدي/موسيقي، وفاز الممثل الأسود المتمكن ماهرشالا علي بجائزة أفضل ممثل مساعد عن دوره في الفيلم ذاته. أما الممثلة السوداء ريجينا كينغ ففازت بجائزة أفضل ممثلة مساعدة عن دورها في فيلم “لو كان بإمكان شارع بيل الكلام”.

جدير بالذكر أن الممثلة ذات الأصل الكوري ساندر أوه فازت بجائزة التمثيل التلفزيوني، رغم كونها أحد مقدمي الحفل بنكات ومزاح لم يخلو من البذاءة أحيانا، رغم أن محطة NBC دأبت في عديد من الأحيان على إخفاء مقاطع كلام عدة فائزين لحذف كل ما يخدش الحياء ـ ويبدو أنه كان أكثر من المعتاد هذا العام.

خلاصة الكلام، يمكننا الاستنتاج من خلال الفائزين بجوائز العام 2019 أن رابطة الصحافيين الأجانب احتفت بالتنوع العرقي في الولايات المتحدة، وأعطت حصة معتبرة للأفارقة ـ الأميركيين، وللمنحدرين من المكسيك وشرق آسيا وشمال أفريقيا، الأمر الذي غاب نسبيا قبل عامين عن مسابقة الأوسكار فأحدث ضجة استنكار واسعة اقتضت الاعتذار.

مجدت الرابطة أيضا بشكل خاص الموضوعات الإنسانية التي تتحدى الفوارق الطبقية، كما ثمنت الاختلاف في السلوك الاجتماعي والخارج عن السائد والمألوف. نلاحظ اشتداد هذه النزعة في هذه الآونة بالذات كردة فعل من هوليوود التي تقود عموما التيار المناوئ سياسيا لسياسة الإدارة الأميركية الحالية، إلى جانب عديد من الصحف ومحطات التلفزيون والجامعات. تلك هي ميزة الديمقراطية الغربية، إذ أن حرية التعبير والنقد البناء متاحة بموجب الدستور لتشكل البوصلة التي تحدد مسار الأمة في المستقبل.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق