عريب الرنتاوي
يزداد المراقبون السياسيون حيرة إذ يحاولون التعرف على مكانة “الإصلاح السياسي” وأولويته على أجندة مؤسسات صنع القرار في الدولة الأردنية. فالتصريحات التي تصدر عن كبار المسؤولين متعارضة داخليا، وأحيانا ينفي بعضها بعضا… تارة يُقال إن ما أنجز على هذا المسار خلال السنوات القليلة الفائتة، كان مرضيا وكافيا… وتارة ثانية يجري التشديد على وجوب تلازم مساري الإصلاح السياسي والاقتصادي وتزامنهما، فلا يتقدم أحدهما على الأخر، ولا يكون على حسابه… وتارة ثالثة، يُستشف من تصريحات كبار المسؤولين، بأن الطريق لبرلمان قائم على التعددية الحزبية تنبثق عنه حكومة برلمانية منتخبة، ما زال طويلا، وأنه ما زال “مفخخا” بالعراقيل والتحديات، من بينها وأهمها، ضعف الأحزاب السياسية وتفشي ظاهرة العزوف عن الأحزاب، سيما من قبل الشباب الأردنيين.
لا يكف الملك عبد الله الثاني عن الدعوة لتشكيل حزبين أو ثلاثة أحزاب قوية في البلاد (مؤخرا تحدث عن خمسة أحزاب)، تكون بمثابة قنوات كبرى للمشاركة السياسية، وتفضي إلى برلمان قائم على التعددية الحزبية، وتسهم في تشكيل كتل برلمانية برامجية، ربما تمهد الطريق لدخول الأردن غمار تجربة “الحكومات البرلمانية”. تتجدد تلك الدعوات باستمرار منذ قرابة عقدين من الزمان، وفي كل مناسبة يتطرق فيها الملك لموضوع الإصلاح السياسي، ولكن من دون جدوى أو استجابة حتى الآن، لا من قبل الأحزاب، ولا من قبل الكتل البرلمانية التي تشكلت في البرلمانات المتعاقبة، والقائمة على اعتبارات فردية وحسابات شخصية بالأساس، في ظل غياب الأحزاب عن البرلمان، أو ضعف تمثيلها.
والأرجح أن الدعوات الملكية تلك، لن تجد طريقها إلى حيز الترجمة والتنفيذ، ما لم تتوفر مؤسسات صنع القرار في الدولة، على الإرادة السياسية للانتقال بالأردن من عصر الحكومات المعينة، حكومات التكنوقراط غالبا، إلى عصر الحكومات البرلمانية المنتخبة، والبرلمانات القائمة على التعددية الحزبية.
ثمة شكوك في توفر هذه الإرادة بوجود قوى محافظة ذات نفوذ قوي في مؤسسات الدولة والمجتمع على حد سواء، والأرجح أن هذا الجدل بما يثيره من أسئلة وتساؤلات ودعوات، سيستمر لسنوات قادمة، إن لم يطرأ ما ليس في الحسبان، ويجد الأردن نفسه مدفوعا بقوة لتغيير مسار تشكيل حكوماته وبرلماناته.
إن الجدل المحلي المحتدم والموصول حول إشكالية العلاقة بين الأحزاب والانتخابات، أو الأحزاب والبرلمان، يعيد التذكير بحكاية “أيهما أولا: الدجاجة أم البيضة؟”. فهل يتعين علينا انتظار قيام حفنة من الأحزاب الكبرى والجماهيرية، قبل إحداث تغيير جذري في قانون الانتخاب، يفضي إلى برلمان قائم على التعددية الحزبية، أم أن إصلاح قانون الانتخابات، هو نقطة البدء، وهو الرافعة الأكبر والأهم لقيام أحزاب سياسية ذات نفوذ وتأثير شعبيين؟
وإذ يتكشف هذا الجدل في بعض جوانبه ومواضعه عن إشكالية معرفية، إلا أنه في جانب آخر منه، يعكس غياب الإرادة السياسية للإصلاح السياسي، ويجسد رغبة “قوى الأمر الواقع والشد العكسي” كما توصف في الأردن، في تأبيد الوضع القائم، وتعليق أي تعثر على مسار الإصلاح على مشجب الأحزاب السياسية الضعيفة، وقطع الطريق على أية “اختراقات محتملة” في العملية السياسية العاثرة والسائرة ببطء شديد في بلادنا.
والحقيقة أنه لا يتعين على الأردن “اختراع العجلة” أو “اكتشاف النار” من جديد، فالأحزاب لا تتشكل ويتعزز نفوذها لمجرد وجود قانون أحزاب أو حتى بتوفير بعض التمويل العام. الأحزاب تتقوى ويتعاظم نفوذها إن توفرت لها قنوات المشاركة الفاعلة في الانتخابات العامة، ومن خلال قانون انتخابي يحفز التعددية الحزبية، ويتعامل مع الأحزاب كقنوات كبرى للمشاركة والتمثيل، ولقد دللت تجربة الانتقال للديمقراطية في عدد وافر من الدول حديثة العهد بها، أن قانون انتخابي قائم على التعددية الحزبية، من شأنه إطلاق ديناميات سياسية واجتماعية كفيلة بإنجاز نظام حزبي فاعل وفي غضون بضعة دورات انتخابية، ويصح ذلك حتى في دول عاشت طويلا تحت مظلة الحزب القائد والدكتاتور مطلق الصلاحيات مثل العراق وتونس.
ولقد جرت في الأردن منذ استئناف الحياة النيابية والحزبية في العام 1989 ثماني انتخابات نيابية، نظمت ستة منها وفقا لصيغ مختلفة من “قانون الصوت الواحد للناخب الواحد”، الذي أسهم في إضعاف وتفتيت الحياة الحزبية، وتعدت تأثيراته الضارة إلى تفكيك البنى الاجتماعية وإنعاش الهويات الثانوية والولاءات الجهوية والمناطقية والعشائرية، وترتب عليه تشكيل برلمانات بلا أحزاب، قائمة على “الفردية” والحسابات الشخصية والمحلية الضيقة، ليتراجع تبعا لذلك دور البرلماني التمثيلي والتشريعي والرقابي في النظام السياسي الأردني، وتتآكل ثقة المواطنين بسلطتهم التشريعية وبالعملية السياسية الجارية في البلاد.
أما الانتخابات الأخيرة (2016) فقد جرت وفقا لقانون القائمة النسبية المفتوحة على مستوى المحافظة/الدائرة، ومن دون “عتبة حسم”، وجرى تقسيم المحافظات الكبرى الثلاث إلى دوائر انتخابية أصغر، وأُبقي على دوائر البدو الثلاث كدوائر مغلقة، ليكون مجموع الدوائر الانتخابية 23دائرة، فكانت النتيجة تفتيت القوائم وعجز معظم الأحزاب عن الحصول على عدد من المقاعد تؤهلها لتشكيل كتل برلمانية، باستثناء حزب جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، الذي تمكن من تشكيل كتلة برلمانية مكونة من 14 نائبا من أصل 130 نائب هم إجمالي عدد أعضاء مجلس النواب.
ولا شك أن المتابع لتطور قوانين الانتخاب في الأردن في السنوات الثلاثين الفائتة، وما يصحبها عادة من خرائط لتقسيم الدوائر الانتخابية وتوزيع المقاعد النيابية عليها، سيلحظ من دون عناء، أنها كانت محكومة بـ”هاجسين” اثنين: الأول؛ وبالأخص منذ العام 1993، ويتمثل في إصرار مراكز صنع القرار على الحيلولة دون حصول جماعة الإخوان المسلمين على أغلبية مقاعد المجلس، أو حتى حصولها على “كتلة معارضة وازنة” فيه.
أما الهاجس الثاني؛ فيتصل بثنائية ما يعرف بالأردن بـ”الحقوق المكتسبة” و”الحقوق المنقوصة”، حيث يراعى في تقسيم الدوائر وتوزيع المقاعد، عدم المساس بالأولى وألا يتخطى تمثيل الأردنيين من أصول فلسطينية عتبة محددة، ارتفعت تدريجيا خلال الدورات الانتخابية الأخيرة، بيد أنها ما زالت دون نسبتهم من إجمالي عدد السكان. وفي ظني أن هذين الهاجسين، هما ما يحولان دون تحقيق اختراق نوعي على مسار العملية الانتخابية، بل وعلى مسار الإصلاح السياسي بمجمله.
إن كلمة السر في استنهاض الحياة السياسية والحزبية في الأردن، هي “قانون انتخابات حديث وعصري”، يعتمد القوائم الوطنية ـ الحزبية لملء جميع أو غالبية مقاعد المجلس، على أن يتضمن عتبة حسم، لا يحق لأية قائمة أن تتمثل في البرلمان من دون اجتيازها، لتقليص آليات التبعثر والتفتيت، ولتمكين الأحزاب من تشكيل كتل نيابية وازنة، ولمغادرة التجربة المرة للبرلمانات القائمة على “الفردية”.
ولتشجيع المواطنين على المشاركة في الأحزاب والانتخابات، وتحديدا الشباب منهم، يتعين الإقرار مقدما، أن حكومات ما بعد أول انتخابات مقبلة، ستشكلها الأحزاب والائتلافات الفائزة بأغلبية المقاعد والأصوات، فلا قيمة للانتخابات ما لم تُمكّن الجهات التي حظيت بثقة غالبية المواطنين من ممارسة الحكم واختبار برامجها.
الحرة