تركي الدخيل
قطع العرب شوطاً بعيداً في الشعر، وتلك حقيقة لا ينازع فيها أحد.
دخلنا متأخرين لعالم الرواية؛ لكن العرب نالوا بالرواية جائزة نوبل، ووضعنا نجيب محفوظ على خريطة العالم باقتدار.
للأسف – وهذه حقيقة مرة – فإن المسرح عندنا، لم يلقَ قبولاً خارج عالمنا العربي الكبير، أو أننا لم نوفّق، حتى في نقل مسرحية من بلد عربي إلى جيرانه المجاورين.
«مدرسة المشاغبين»، ارتبط بثها التلفزيوني بالأعياد في معظم أقطار الخليج العربي، ربما بحثاً عن البهجة. وأعتز بأني قابلت كاتبها الكبير الراحل، علي سالم، وارتبطنا بعلاقة محبة بين تلميذ وأستاذه، الذي كان يبتدئ التواصل الهاتفي بنكتة عميقة، وينهيها بمثلها، وكأنه يحيط ما يجود عليَّ به من علم بطرفة لا تنسيك ما يقول.
العبد الفقير لله، من جيل كلما ضاقت عليه الدنيا، هرب إلى جميل مسرحيات عبد الحسين عبد الرضا، من «على هامان يا فرعون»، إلى «باي باي لندن». وقد كان ملك «الإفيهات» (الطرفة المحبوكة)، ومن عجب أنه كان يرتجل معظمها من دون تحضير. قال لي ناصر القصبي الذي طرز مسيرته بتقديم أكثر من عمل مع عبد الحسين: «صناعة (الإفيه) كانت تستغرق وقتنا، حتى نلدها ولادة متعسرة؛ لكن عبد الحسين كان يلقيها بسهولة وجمال في التصوير من دون تحضير، ما دفعني لأسأله عن هذه القدرة، فأجاب فوراً: المسرح. هناك من يحضر المسرحية الواحدة أكثر من مرة، وربما مرات. أشعر أمام هؤلاء الذين يقدرونني بأني يجب أن أقدم لهم كل يوم شيئاً جديداً».
لكن ماذا عن السينما؟ تلك الصناعة التي تدمج المسرح والرواية، بشاعرية النص ومتعة الألوان، لكي نرى تجليات النفس البشرية المشتركة، أياً كانت اللغة التي يتحدثها المشاهد.
ألم يقل أحد أشهر المخرجين الأميركيين، فرانك كابرا (1897 – 1991): إن السينما أو كل فيلم، هو واحد من ثلاث لغات على الأرض، إذا اتفقنا أن الموسيقى والرياضيات هما اللغتان اللتان لا يختلف على قدرة الإنسان على استيعابهما عاقلان مهما فرقتهما لغات الأرض؛ بل أليست السينما هي أصدق محاولات الإنسان وأبسطها لفهم أخيه الإنسان؟ أليست هي يداً ممدودة في الهواء تلوح للناظرين؟ إن مشكلاتك ومعاناتك اليومية، أياً كان لونك ولسانك، هي معاناة رجل أو امرأة أخرى على هذا الكوكب!
غياب السينما العربية عن مكانها الذي تستحقه، ظلم لأجيال لن تستطيع أن تشاهد تعقيد الحياة التي مر بها أسلافهم، فكل فيلم كما يزعم شارلي شابلن، ما هو إلا «فكرة الحصول على مشكلة، ومن ثم البحث عن فرصة، لجعل تلك المشكلة كارثية، يحاول من خلالها البطل أو المخرج، الظهور بمظهر الرجل العادي البسيط، القادر على حل تلك الأحجية».
كل فيلم جميل أصبح ترياقاً ضد البؤس؛ بل إن صناعة الأفلام وإنتاجها، إصرار على مساعدة الناس على مواجهة تحديات الحياة.
من منا لم يجد نفسه بطلاً في فيلم وهو جالس على أريكة منزله؟ من منا لم يجد نفسه عالقاً في مشهد، وقف فيه على حوار يلمسه شخصياً، في فيلم ما، ثم ارتاح باله واطمأنت نفسه؟!
قد لا يكون أثر السينما مباشراً، مثل الموسيقى؛ لكنه يذهب إلى منطقة بعيدة في النفس، لا أجزم بأنها العقل الباطن، ولكن أجدني شجاعاً وأنا أشبهها بوجبة ممتازة، غير متوقعة، في رحلة على الدرجة الاقتصادية.
كثير من النقاد يكررون مع ستانلي كوبرك، أن «الفن هو إعادة تشكيل الواقع المحيط، وليس خلقاً لواقع جديد»؛ لكني أختلف معهم، وأستمتع بالاختلاف مع النقاد، فجملهم القصيرة، عالية التكثيف، تفتقد غالباً للواقعية التي لا يرون بها العالم. ولأنهم يتناسون أن ستانلي نفسه قال: «الإخراج السينمائي يطابق محاولة كتابة رواية من ألف صفحة، أثناء قيادتك سيارة دفع رباعي على جبل»!
إعادة تشكيل الواقع المحيط ليست مطلباً سهلاً، بل تكاد تكون مستحيلة؛ لأن الإمساك بلحظة من الواقع، ووضعها في إطار سينمائي، بشكل كامل، يحتاج لعمر، أو عمرين، لمخرج فذ وعبقري.
في السعودية، يمكن للسينما أن تكون أداة لعلاج كثير من مشكلات المجتمع. لا يمكن لمجتمع، أن يصل إلى أن يقبل معظمه فكرة أو يرفضها، من دون أن يكون للسينمائيين مساهمة في صناعة ذلك. السينما هي الحالة الفنية التي لا تجبر أحداً على الاقتناع بشيء، ولكنها أيضاً لا تترك مشاهداً من دون أن يكوِّن رأيه الخاص، فالمشاهد أهم النقاد.
تمطر في الدوادمي، فتلتقط عدسة مصور محترف صورة راعٍ سوداني، يعود بجماله حافياً، والسماء تنهمر بمطر لم تشهد مثله المنطقة منذ عقود. يبهر المشهد الناظرين، ويعلق أحدهم: «هذه أجمل صورة سينمائية هذا العام»!
أين هي حياة الراعي المخلص؟ أين صباحه؟ وأين مساؤه؟ وما المعاناة التي تكبدها ليكون راعياً للإبل في نجد وسط السعودية؟ ما علاقته بصاحب الحلال؟ بل ما علاقته مع الإبل؟ صورة واحدة التقطت على عجل، كان يمكن أن تكون مقطعاً من فيلم سينمائي، نهديه لأصدقائنا في مشارق الأرض ومغاربها بفخر، قائلين: هذه أرضنا، وتلك حياتنا، التي لم تنتهِ، حتى مع ركضنا باتجاه «رؤية 2030».
تغرق مبتعثة سعودية في نهر بأميركا، فيسألني زميل أميركي: هل ترسلون بناتكم للتعليم في الخارج؟ أتجاهل سؤاله المغرق في الفوقية، وأعتب على من ضيع تجارب آلاف المبتعثين دون أن يستثمرها سينمائياً.
بالسينما، نختار تقديم أنفسنا بطريقتنا الخاصة للعالم، نقدم روايتنا أولاً، وصاحب الرواية الأولى هو الأقوى، لذا لا يمكن أن نعاتب الآخر حينما يتجنى علينا بالأحكام المسبقة.
«كل شيء يمكن الحصول عليه بالقوة، إلا الحب والاحترام»، طبقاً لفيلم العراب «godfather» الشهير، وينطبق ذلك حرفياً على مخرج أو كاتب نصوص يتقاعس عن محاولة كتابة ألف صفحة، وهو يصعد جبلاً بسيارة دفع رباعي!
لدينا اليوم كثير من القصص القصيرة، والروايات السعودية الفائزة بالجوائز، والمدرجة في القوائم القصيرة، أين هم الباحثون عن المجد، من خلال تخليد معاناة البسطاء والرجال والأمهات العاديات؟
أصعب ما في السينما العربية، أن العالم العربي مليء بالقصص اليومية… بالنجاحات والإخفاقات؛ لكن ما نفتقده حقاً ليس عدسة مخرج ولا إضاءة متقنة؛ بل نحتاج لتكاتف جماعي، يكوِّن ظهورنا الذي يشبهنا، على الشاشة التي تتكلم كل اللغات.
لا يمكن الوصول إلى الخلود في السينما، من دون توفر الشروط الثلاثة التي سكها المخرج العظيم ألفريد هتشكوك: «تحتاج ثلاثة أشياء أساسية لصنع فيلم جيد: السيناريو، والسيناريو، والسيناريو».
دخلنا متأخرين لعالم الرواية؛ لكن العرب نالوا بالرواية جائزة نوبل، ووضعنا نجيب محفوظ على خريطة العالم باقتدار.
للأسف – وهذه حقيقة مرة – فإن المسرح عندنا، لم يلقَ قبولاً خارج عالمنا العربي الكبير، أو أننا لم نوفّق، حتى في نقل مسرحية من بلد عربي إلى جيرانه المجاورين.
«مدرسة المشاغبين»، ارتبط بثها التلفزيوني بالأعياد في معظم أقطار الخليج العربي، ربما بحثاً عن البهجة. وأعتز بأني قابلت كاتبها الكبير الراحل، علي سالم، وارتبطنا بعلاقة محبة بين تلميذ وأستاذه، الذي كان يبتدئ التواصل الهاتفي بنكتة عميقة، وينهيها بمثلها، وكأنه يحيط ما يجود عليَّ به من علم بطرفة لا تنسيك ما يقول.
العبد الفقير لله، من جيل كلما ضاقت عليه الدنيا، هرب إلى جميل مسرحيات عبد الحسين عبد الرضا، من «على هامان يا فرعون»، إلى «باي باي لندن». وقد كان ملك «الإفيهات» (الطرفة المحبوكة)، ومن عجب أنه كان يرتجل معظمها من دون تحضير. قال لي ناصر القصبي الذي طرز مسيرته بتقديم أكثر من عمل مع عبد الحسين: «صناعة (الإفيه) كانت تستغرق وقتنا، حتى نلدها ولادة متعسرة؛ لكن عبد الحسين كان يلقيها بسهولة وجمال في التصوير من دون تحضير، ما دفعني لأسأله عن هذه القدرة، فأجاب فوراً: المسرح. هناك من يحضر المسرحية الواحدة أكثر من مرة، وربما مرات. أشعر أمام هؤلاء الذين يقدرونني بأني يجب أن أقدم لهم كل يوم شيئاً جديداً».
لكن ماذا عن السينما؟ تلك الصناعة التي تدمج المسرح والرواية، بشاعرية النص ومتعة الألوان، لكي نرى تجليات النفس البشرية المشتركة، أياً كانت اللغة التي يتحدثها المشاهد.
ألم يقل أحد أشهر المخرجين الأميركيين، فرانك كابرا (1897 – 1991): إن السينما أو كل فيلم، هو واحد من ثلاث لغات على الأرض، إذا اتفقنا أن الموسيقى والرياضيات هما اللغتان اللتان لا يختلف على قدرة الإنسان على استيعابهما عاقلان مهما فرقتهما لغات الأرض؛ بل أليست السينما هي أصدق محاولات الإنسان وأبسطها لفهم أخيه الإنسان؟ أليست هي يداً ممدودة في الهواء تلوح للناظرين؟ إن مشكلاتك ومعاناتك اليومية، أياً كان لونك ولسانك، هي معاناة رجل أو امرأة أخرى على هذا الكوكب!
غياب السينما العربية عن مكانها الذي تستحقه، ظلم لأجيال لن تستطيع أن تشاهد تعقيد الحياة التي مر بها أسلافهم، فكل فيلم كما يزعم شارلي شابلن، ما هو إلا «فكرة الحصول على مشكلة، ومن ثم البحث عن فرصة، لجعل تلك المشكلة كارثية، يحاول من خلالها البطل أو المخرج، الظهور بمظهر الرجل العادي البسيط، القادر على حل تلك الأحجية».
كل فيلم جميل أصبح ترياقاً ضد البؤس؛ بل إن صناعة الأفلام وإنتاجها، إصرار على مساعدة الناس على مواجهة تحديات الحياة.
من منا لم يجد نفسه بطلاً في فيلم وهو جالس على أريكة منزله؟ من منا لم يجد نفسه عالقاً في مشهد، وقف فيه على حوار يلمسه شخصياً، في فيلم ما، ثم ارتاح باله واطمأنت نفسه؟!
قد لا يكون أثر السينما مباشراً، مثل الموسيقى؛ لكنه يذهب إلى منطقة بعيدة في النفس، لا أجزم بأنها العقل الباطن، ولكن أجدني شجاعاً وأنا أشبهها بوجبة ممتازة، غير متوقعة، في رحلة على الدرجة الاقتصادية.
كثير من النقاد يكررون مع ستانلي كوبرك، أن «الفن هو إعادة تشكيل الواقع المحيط، وليس خلقاً لواقع جديد»؛ لكني أختلف معهم، وأستمتع بالاختلاف مع النقاد، فجملهم القصيرة، عالية التكثيف، تفتقد غالباً للواقعية التي لا يرون بها العالم. ولأنهم يتناسون أن ستانلي نفسه قال: «الإخراج السينمائي يطابق محاولة كتابة رواية من ألف صفحة، أثناء قيادتك سيارة دفع رباعي على جبل»!
إعادة تشكيل الواقع المحيط ليست مطلباً سهلاً، بل تكاد تكون مستحيلة؛ لأن الإمساك بلحظة من الواقع، ووضعها في إطار سينمائي، بشكل كامل، يحتاج لعمر، أو عمرين، لمخرج فذ وعبقري.
في السعودية، يمكن للسينما أن تكون أداة لعلاج كثير من مشكلات المجتمع. لا يمكن لمجتمع، أن يصل إلى أن يقبل معظمه فكرة أو يرفضها، من دون أن يكون للسينمائيين مساهمة في صناعة ذلك. السينما هي الحالة الفنية التي لا تجبر أحداً على الاقتناع بشيء، ولكنها أيضاً لا تترك مشاهداً من دون أن يكوِّن رأيه الخاص، فالمشاهد أهم النقاد.
تمطر في الدوادمي، فتلتقط عدسة مصور محترف صورة راعٍ سوداني، يعود بجماله حافياً، والسماء تنهمر بمطر لم تشهد مثله المنطقة منذ عقود. يبهر المشهد الناظرين، ويعلق أحدهم: «هذه أجمل صورة سينمائية هذا العام»!
أين هي حياة الراعي المخلص؟ أين صباحه؟ وأين مساؤه؟ وما المعاناة التي تكبدها ليكون راعياً للإبل في نجد وسط السعودية؟ ما علاقته بصاحب الحلال؟ بل ما علاقته مع الإبل؟ صورة واحدة التقطت على عجل، كان يمكن أن تكون مقطعاً من فيلم سينمائي، نهديه لأصدقائنا في مشارق الأرض ومغاربها بفخر، قائلين: هذه أرضنا، وتلك حياتنا، التي لم تنتهِ، حتى مع ركضنا باتجاه «رؤية 2030».
تغرق مبتعثة سعودية في نهر بأميركا، فيسألني زميل أميركي: هل ترسلون بناتكم للتعليم في الخارج؟ أتجاهل سؤاله المغرق في الفوقية، وأعتب على من ضيع تجارب آلاف المبتعثين دون أن يستثمرها سينمائياً.
بالسينما، نختار تقديم أنفسنا بطريقتنا الخاصة للعالم، نقدم روايتنا أولاً، وصاحب الرواية الأولى هو الأقوى، لذا لا يمكن أن نعاتب الآخر حينما يتجنى علينا بالأحكام المسبقة.
«كل شيء يمكن الحصول عليه بالقوة، إلا الحب والاحترام»، طبقاً لفيلم العراب «godfather» الشهير، وينطبق ذلك حرفياً على مخرج أو كاتب نصوص يتقاعس عن محاولة كتابة ألف صفحة، وهو يصعد جبلاً بسيارة دفع رباعي!
لدينا اليوم كثير من القصص القصيرة، والروايات السعودية الفائزة بالجوائز، والمدرجة في القوائم القصيرة، أين هم الباحثون عن المجد، من خلال تخليد معاناة البسطاء والرجال والأمهات العاديات؟
أصعب ما في السينما العربية، أن العالم العربي مليء بالقصص اليومية… بالنجاحات والإخفاقات؛ لكن ما نفتقده حقاً ليس عدسة مخرج ولا إضاءة متقنة؛ بل نحتاج لتكاتف جماعي، يكوِّن ظهورنا الذي يشبهنا، على الشاشة التي تتكلم كل اللغات.
لا يمكن الوصول إلى الخلود في السينما، من دون توفر الشروط الثلاثة التي سكها المخرج العظيم ألفريد هتشكوك: «تحتاج ثلاثة أشياء أساسية لصنع فيلم جيد: السيناريو، والسيناريو، والسيناريو».
الشرق الأوسط