جويس كرم
“الوطن غال والوطن عزيز والوطن شامخ”، هكذا كان يردد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. لم يكن ليتوقع “مؤسس سوريا الحديثة” أنه بعد 19 عاما على رحيله ستتحول الوطن إلى قاعدة روسية، ورقعة منه إلى سلعة تفاوضية بين تركيا والولايات المتحدة، ورقعة أخرى إلى ساحة مستباحة من الطيران الاسرائيلي فيما الميليشيات المذهبية والإقليمية تتغلغل في البلاد وتكاد تصبح الحاكم الأقوى.
يجري الرئيس الأميركي دونالد ترامب مفاوضات متقدمة مع تركيا حول منطقة آمنة عرضها 32 كيلومترا، تسهل انسحاب واشنطن وتلزيمها الملف جزئيا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان شرط حماية الأكراد. بالنسبة للأميركيين، المنطقة الآمنة توفر شريطا آمنا لأنقرة وتغنيها عن هجوم بري لمناطق الأكراد مقابل إمكانية سحب مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى مناطق بعيدة عن تركيا مثل وادي قنديل.
في المقابل، هناك إغراءات أميركية لتركيا بزيادة التبادل التجاري، وللأكراد بضمان لا مركزيتهم وشبه حكم ذاتي، والسعي وراء آلية أمنية لحمايتهم في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم حاليا وهو مطلب أساسي للكونغرس.
تبحث تفاصيل المنطقة الآمنة بين القيادتين الدفاعيتين التركية والأميركية مع زيارة قائد هيئة الأركان جوزيف دانفورد إلى أنقرة وقبله وفدين من البيت الأبيض والخارجية الأميركية. أما الأسئلة المطروحة فهي من يحمي المنطقة؟ ومن يمولها؟ وأي دور لها في استيعاب اللاجئين أو في الضغط على دمشق؟ ليس هناك إجابات نهائية بعد على هذه القضايا، وترامب يريد صفقة مع تركيا إنما في نفس الوقت يريد حماية مصالح الأكراد والتضييق على إيران وروسيا.
وفي ظل المعمعة والضبابية حول خيار المنطقة الآمنة، يخرج عراب المتعاقدين الأمنيين أريك برينس ليطرح خدماته في سوريا. برينس، المدير السابق لـ”بلاك ووتر”، الذي لم يفلح بإقناع وزير الدفاع السابق جايمس ماتيس باستثمار خدماته وتلزيم حرب أفعانستان لشركات دفاعية خاصة، قد ينجح في سوريا. إذ سيكون من الصعب ملأ الفراغ الأمني الذي سيتركه الجانب الأميركي من قبل الجانب التركي بسبب عدم ارتياح المقاتلين الأكراد للقوات التركية. أما الجانب العربي فهو متردد في المشاركة ولن يضع جيوشه في مواجهة مع ميليشيات إيران، فيما هناك حذر أميركي من استفادة روسيا ورفض لسيطرة النظام على المناطق. كل هذا، يخلق فرصة نادرة أمام برينس الذي بدأ حملته الاعلامية عبر “فوكس نيوز” لاستلام ملف القتال في سوريا.
في نفس الوقت، تزيد روسيا من حضورها العسكري في جنوب سوريا فيما تحاول إسرائيل التأقلم مع التبدلات الميدانية والتركيز على تواجد إيران كأولوية عسكرية.
فالضربات التي شنتها تل أبيب مرتين منذ إعلان ترامب الانسحاب في 19 كانون الأول/ديسمبر، وآخرها كان الجمعة الفائت، تسعى إلى ترسيخ واقع جديد بعد مغادرة الأميركيين هذا العام أو العام المقبل.
الرهان بين المراقبين هو أن وتيرة الضربات الاسرائيلية ستتزايد على وقع الانسحاب الأميركي من سورية، لاستكمال الضغط على إيران. وهناك أيضا مساع أميركية لتقريب وجهات النظر بين تل أبيب وأنقرة في سوريا وتطويع جهودهما لكبح إيران، وهو أمر من المستبعد أن تقوم به تركيا.
أما موضوع فتح السفارات في دمشق فيبدو أنه تباطأ خصوصا بعد زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو إلى المنطقة، ونفي السعودية نيتها فتح سفارتها قريبا. فالإدارة الأميركية ضغطت في هذا الاتجاه ولا تريد فتح السفارات من دون مقابل، خصوصا مع إمكانية توظيف هذا الأمر في مفاوضات يقودها غير بيدرسون، الذي زار دمشق هذا الأسبوع.
مرحلة تقاسم الكعكة السورية تعززت مع اتصالات ترامب ـ أردوغان والزيارات غير المتوقفة من وإلى روسيا فيما الغائب الأكبر عنها هم السوريون أنفسهم. فبعد ثماني سنوات من الحرب والعبث والدمار، ليس هناك منتصر في سوريا بل تفتت وتطرف وفصل إثني وانتهازية دولية وتلهفا لتوزيع الجوائز وحصد الأرباح المادية والسياسية والمعنوية.
الحرة