فارس خشّان
“نعت”، في الآونة الأخيرة، نخبة مرموقة من الكتّاب اللبنانيين في مقالات تتنافس بجودتها، لبنان وشعبه، محمّلة مسؤولية هذا المصير الحزين إلى الطبقة السياسية الفاسدة أو إلى الطبقة الميليشياوية المسلحة أو إلى تعاضد هاتين الطبقتين معا.
واستند هؤلاء الكتاب المنتمون إلى مشارب مختلفة وأحيانا متناقضة ـ وبعضهم يليق به لقب “مثقف” أو “مفكر” ـ في فعلتهم هذه إلى قرف عام، في ظل توالد المآزق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والسيادية، تحت أعين دولة عاجزة بسلطاتها ومؤسساتها وإداراتها.
ولأنّ القراء قلة، فإن هذه المقالات مرّت مرور الكرام لدى الطبقات المستهدفة بها، على عكس ما حصل عندما صدرت بعض الأغاني الخفيفة. وهذا طبيعي، فالاستماع إلى هذا النوع من الأغاني لا يتطلب أي جهد عقلي، وتاليا أي إنفاق من “المادة الرمادية” المحفوظة، كما خلقت، للحشرات والطفيليات حين يأتي المحتوم.
ومهما كانت عليه الحال، فكيف يُعقل أن يُقدم كتّاب كبار ومثقفون مشهود لهم على فعل ما فعلوه، مستهدفين ما تبقى من معنويات لدى شعب يستقوي، أحيانا، بالوهم حتى يبعد نفسه عن صخرة عالية وعن فوهة مسدس وعن حبل متين وعن سمّ ذؤاف؟
طالما طرحت هذا السؤال على نفسي وعلى غيري، في مناسبات عدة، بينها وطنية وبينها فلسفية وبينها دينية. وتضاربت الأجوبة.
يعتبر البعض أنه عندما توصد الأبواب لا بد من محاولة فتحها بالصدم، وتاليا لا بد من التعبير عن القناعات الوجدانية كما هي، لعلّ ذلك ينتج وعيا، سواء على مستوى المقرّر فيتغيّر، أو على المستوى الشعبي، فيثور.
البعض الآخر، يرى أنه في السياسة لا وجود لأبواب مغلقة، لأنّ الأمور منوطة بالظروف، والظروف خاضعة لمعادلة المفاجآت، وتاليا، لا بد من الإبقاء على نافذة الأمل مفتوحة. دليلهم على ذلك كثير من الأمثلة، ومن بينها، أن كل من كان يعتقد بأن خروج الجيش السوري من لبنان مستحيل، فوجئ بحصول ذلك.
إذن، لماذا، والحالة هذه، يقدم كبار الكتاب على نعي وطن وشعبه؟
لأن هؤلاء يائسون.
يائسون من سياسيين لا يستمعون إليهم، وإن استمعوا لا يفقهون، وإن فهموا لا يتحركون.
يائسون من شعب أهمل واجباته كقوة ضغط وكمصدر شرعية، واستتبع نفسه لمن يستغله ولمن يستقوي عليه ولمن يهدر خيراته.
يائسون من مؤسسات تقف مكتوفة الأيادي ـ إن لم تكن أصلا شريكة بتقاسم المنفعة ـ أمام تقبيح كل ما هو جميل، وإفساد كل ما هو صالح، وتلويث كل ما هو صحّي.
يائسون، لأنهم يرون أن “صبيان أزقة” قادرون على إفشال قمة عربية تستضيفها بلادهم، إذ تقف السلطة عاجزة أمامهم، بفعل حماية ميليشياوية، عندما يبادرون إلى سحب أعلام ليبيا عن سارياتها، وبذلك يعطون ما يكفي من أدلة لأجهزة الدول المدعوة الى لبنان حتى تمنع ملوكها ورؤساءها من المجيء إليه، “لأنه بلد محكوم بإرادة غير الحكام، وتاليا فمخاطره داهمة”.
يائسون، من دولة “تتمرجل عليهم”، إن زاحوا عن الخط المسموح، في حين أن غيرهم، يفعل “السبعة ودّمتها”، أي كل الموبقات الوطنية، وممنوع على أي سلطة أن تمس بهم.
ويائسون، وهذا الأهم، من قدرتهم على إحداث أي تغيير، فهم أقوياء كأفراد ولكنهم يعجزون عن التجمّع، وهم متفوقون كأشخاص ولكنهم لا يقبلون بتقدم أي منهم على أي منهم، وهم بحاجة إلى “مال المشكو منهم” ليسدوا حاجاتهم الحياتية، لأنهم أعجز من أن يبتدعوا ما من شأنه أن يوفّر لهم استقلالية حقيقية تتناسب وتطلعاتهم “الدفترية”.
يائسون، لأنهم بعجزهم هذا، يجدون أن من يصنّفونهم جهلة أكثر شعبية منهم، فبسخافات هنا وبشتائم هناك وبأدبيات “المحششين” هنالك، لهم شعبية تفوق شعبيتهم بعشرات الأضعاف، على وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي.
في يأس هؤلاء الكتّاب، كما في مقالاتهم، الكثير من الدقة؛ ولكن، على الرغم من ذلك، لا بد من إبقاء باب الأمل مفتوحا، فالكاتب عندما يتوجه للناس وحتى يكون مبدعا أي صانع حياة، لا يكتفي بإخبارهم أن “باندورا” أغلقت صندوقها وسجنت الأمل فيه، بعدما خرج منه إلى العالم كل الشرور والنوائب، بل يذهب إلى إيجاد طريقة تعينه وتعينهم على فتح هذا الصندوق، مرة جديدة، لإطلاق سراح الأمل ومحاولة أسر بعض الشرور والنوائب مجددا.
كنّا مرة في حديث ديني، فإذا بأحدنا يلح في محاولة إقناعنا بعدم وجود الله، وبعد طول حديث، قال له آخر من بيننا: “حسنا أنا اقتنعت بذلك، والآن، تعال معي إلى المستشفى، حيث شقيقتي على خط التماس الذي يفصلها عن الحياة والموت”، فأجابه الأول: “لا أستطيع هذين اليومين، فلدي كثير من المشاغل”، فنهره الثاني: “إن الله لم يكن ليعتذر مني، ولكنت الآن ذهبت الى المستشفى مستنجدا به، فإذا كنت عاجزا عن الوقوف معي، لماذا تحاول إقناعي بأن من أعتقد بأنه يمكن أن يقف معي غير موجود”. وبعد صمت، تابع صديقنا الثاني: “أمام عجزك عن تقديم حل آخر، من الأفضل أن تصمت، فالله قيمة نوعية للإنسان، ومحاولة إلغائها، لا يحررنا من سطوة الأديان السياسية والاجتماعية المشكو منها، إنّما يغرقنا في يأس لا خروج منه”.
تأسيسا على كل ذلك، لا مناص من شحذ همّة الغضب الشعبي على الشواذ السياسي والميليشياوي والمؤسساتي والبيئوي والفسادي، ولكن إعلان وفاة وطن، مثله مثل إغلاق “صندوق باندورا” ونفي وجود الله، وليس في ذلك إبداع ولو كانت مصادرك الثقافية أغزر من منابع نهر الأمازون وأدلتك أصلب من أدلة “غاليلي” على أن الأرض كروية وتدور.
الحرة