أقلام مختارة

أزمة الشهادات العلمية في العالم العربي

محمد المحمود

يمكن القول إن ظاهرة “رهبان العلم” تكاد تكون مفقودة اليوم في العالم العربي. لا ينفي هذا الحكم شبه التعميمي تلك الاستثناءات النادرة التي تؤكد هذه القاعدة؛ إذ تبدو هذه الاستثناءات كخوارق للعادات الثقافية الراسخة. كما لا تستطيع النماذج التاريخية الكبرى الشغب على هذا الحكم؛ إذ هي خارج سياق العرب الثقافي الراهن الذي يتأسس على قرون الانحطاط المتأخرة. فالمعرفة في عالم العرب اليوم لم تعد خالصة لوجه العلم، ولو في الحدود الدنيا التي تحفظ حرمات العلم من الابتذال في أسواق التربح الرخيص.

كثير من الدول العربية، لا سيما الدول الخليجية، تشكو من ظاهرة الشهادات العلمية المزورة/ الوهمية، خاصة تلك المتعلقة بشهادة الدكتوراه التي يقتات بها العربي الفقير، ويتباهى بها العربي الغني. وهي وإن كانت ظاهرة ليست بالجديدة، إلا أنها بدت مؤخرا وكأنها (الشهادات الوهمية) هي الأصل، بينما الشهادات الحقيقية باتت موضع اتهام حتى يثبت العكس. وهذه كارثة تزعزع الثقة بالظاهرة العلمية كافة؛ ومن ورائها بمسارات التنمية في كل المجالات، لا سيما مجالي: الصحة والتعليم.

كلما تمادى المهتمون بالكشف عن عمق هذه الظاهرة؛ بدت أكبر بكثير من المتوقع، بل وتبدو الجهود المتعلقة بمكافحة هذا الوباء متعثرة، أو هي بطيئة في أحسن الأحوال. وأسباب هذا التعثر/ البطء كثيرة، ولكن لا يخفى أن كثيرا من المتصدرين بشهادات وهمية، من جامعات وهمية، أو شبه وهمية، استطاعوا الوصول ـ بواسطة هذه الشهادات ـ إلى مناصب مرموقة ومواطن نفوذ؛ مكنتهم من تكوين ما يشبه جبهة دفاع/ الجبهة التي تتصدى ـ بشكل خفي ـ لكل عمليات الردع: الكشف ـ المحاسبة ـ العقاب.

ثمة إغراء معنوي ومادي باذخ في هذه الشهادات. حتى أولئك الذين اجتهدوا في نيلها، وتمكنوا من الحصول عليها بجدارة؛ أصبحوا وكأنهم لم يحصلوا عليها انسياقا وراء تقدير خالص للمعرفة من حيث هي معرفة، بل لمجرد ما تمنحه من فرص سانحة في الترقي الاجتماعي والتربح المالي. ولا عيب في ذلك لو كان العلم واشتراطاته حاضرة في سياق هذا التراقي وهذا التربح، ولكن يبدو أن الهم العلمي يتراجع حتى يصبح صفرا؛ بينما يتنامى الهم اللاعلمي؛ حتى يصبح هو الأساس. ولهذا تجد كثيرا من أصحاب تلك الشهادات قد استقالوا من كل جهد معرفي بعد الحصول عليها؛ فكأنها كانت جواز مرور لمرة واحدة، ومن ثم كان آخر عهدهم بالعلم يوم حصولهم عليها!

إذن، ثمة هوس بالحصول على الشهادات العلمية، سواء الحقيقية أو الوهمية، ولكن في المقابل، ثمة زهد يضاهي هذا الهوس بكل ما تتضمن الشهادات من اشتراطات معرفية قانونا أو عرفا. بعض الأقطار العربية لديها من الشهادات العليا أكثر مما لدى بلد أوروبي عريق في المعرفة كفرنسا، مع أنه/ القطر العربي لا يزال يرزح تحت وطأة تخلف فظيع يجعله في صدارة متخلفي العالم الثالث النائم/ لا النامي.

من الواضح أن العرب يتعاملون مع شهادة الدكتوراه ـ وغيرها من الشهادات العلمية ـ معاملة تختلف كثيرا عن تعامل الغرب/ العالم المتحضر. طبعا، الأسباب كثيرة، ولكن ربما كان أهمها في تصوري ما يلي:

  1. العرب حديثو العهد بالشهادات، قياسا بالحال عند الغرب. فإذا كانت الشهادات عند الغرب تمتد لقرون، فإنها عند العرب في حدود القرن الواحد تقريبا، إذ إن أول شهادة دكتوراه من أول جامعة عربية “جامعة القاهرة” كانت شهادة دكتوراه طه حسين عن أبي العلاء المعري، التي حصل عليها عام 1914، قبل سفره إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه الثانية. أما بقية الشهادات “غير الدكتوراه” فلا تتجاوز هذا التاريخ بأكثر من نصف قرن. طبعا، هذا في مصر، المتقدمة تاريخيا في مأسسة التعليم. وأما في غيرها من بلاد العرب، فالتاريخ أقرب من هذا بكثير. ما يعني أن الوعي بالشهادات من حيث طبيعتها وتنوعها ووظائفها محدود، والابتهاج الطفولي/البدائي بها لا يزال قائما.
  2. التأسيس الأكاديمي لعالم الشهادات في العالم العربي، تزامن مع مرحلة بناء الدولة الحديثة، بمؤسساتها القائمة على وظائف مشروطة بالشهادات. ومن هنا ارتبطت الشهادات بعالم غير عالم المعرفة الذي يفترض أنها صادرة عنه، أي ارتبطت بعالم المصالح المباشرة التي تتجاوز نطاق الفضاءات المعرفية (المدارس، الجامعات، مراكز البحوث)، إلى فضاءات العمل والمال والسلطة والنفوذ. وبهذا أصبحت الشهادة ليست شهادة على المعرفة، بقدر ما هي جواز مرور إلى الوجاهة والترقي في سلم المنافسات الاجتماعية.
  3. يضاف إلى ذلك سبب عام، تندرج إشكاليتنا مع الشهادات في سياقه؛ وهو أننا نعاني كثيرا في توظيفنا لكثير من مخرجات الحضارة المعاصرة، إلى درجة الارتباك، وربما الفوضى. أقصد: أن هذه المشكلة هي من جملة مشاكل تحكي بؤسنا في التعامل مع الطبيعة المؤسساتية للعمل العام في صورته المعاصرة، والذي لا قيام لمجتمع حديث بدونها “الطبيعة المؤسساتية”. فنحن ندخل كثيرا من العناصر اللامؤسساتية (من عادات وتقاليد وأعراف وتوهمات هُويّاتية تنتمي إلى زمن غابر مغاير) في سياق العمل المؤسسي، فتضطرب علينا كثير من الأمور، وتطفح على السطح مشاكل تتناسل من حلولنا، ولا تتجاوز كونها جزءا من الإشكال.

هكذا يبدو الوضع في عالمنا العربي، إذ نتيجة لهذا السياق الذي انحرف بالشهادات عن مهامها الوظيفية الأولى، أصبحت الشهادات سلم الوصول إلى الوظائف المرموقة، ومنها إلى المال والنفوذ والوجاهة. ولأنها كذلك، ولأنها ـ كشهادات معرفية/ مهاراتية متخصصة ـ تحتاج لجهد متواصل ليس في وسع الأغلبية من الطامعين الطامحين بذله؛ عمد كثير من هؤلاء إلى الأساليب اللامشروعة للحصول عليها، من تزوير للشهادات، إما بالتزوير التقليدي المباشر، وإما بالحصول عليها من جامعات وهمية، وإما باستئجار من يساعد في أداء أهم مهامها. إنها مغرية كالمال تماما. فإذا كان المال مطمعا، مطمحا؛ لأنه يحقق الكثير من الرغبات المادية والمعنوية، فإن الحصول على المال الكثير يحتاج لمهارة وجهد طويل وشاق، وهذا ما لا يتوافر لكثيرين. ومن هنا، يكثر اللصوص والسرّاق والمختلسون والخائنون للمال العام. وكما هناك لصوص مال، فهناك لصوص شهادات، وهذه من تلك، وكلها تؤدي الدور نفسه في المجتمع الواحد.

أما طمأنينة أصحاب الشهادات الوهمية والمزورة فإنها كطمأنينة اللصوص، أي هي طمأنينة نسبية، مرتبطة بمستويات الضبط والردع في الفضاء الذي تستشري فيه. فكما أن اللصوص والمختلسين يستمدون طمأنينتهم ـ ومن ثم تماديهم في فسادهم ـ من تراخي قبضة النظام، ومن ضعف العقوبات، فكذلك شأن أصحاب الشهادات. وهنا يجب أن ندرك ضرورة أن يكون مستوى الخوف الناتج من الردع النظامي قويا، أي متجاوزا لإغراء المطامع المرتبطة بهذه الشهادات، لأن كل اللصوص، في العالم كله، يقيسون ـ قبل الإقدام على الجريمة ـ حجم الإغراء بحجم الأخطار المتوقعة، فإذا كان الخطر ضعيفا من حيث درجته أو احتمال وقوعه، أقدموا، وإلا فلا.

إننا نقولها بوضوح: في العالم العربي لم يكن الردع بحجم الإغراء. الإغراء كبير، بما تتيحه الشهادات من مناصب ومكاسب، مادية ومعنوية، بينما الردع خجول في معظم الأحيان. ومن هنا، تكون المغامرة، من قِبَل حملة هذه الشهادات، مغامرة تستحق العناء. ولا شك أننا كمجتمع وكمؤسسات ضابطة في المجتمع، نتحمل كثيرا من المسؤولية هنا، فنحن الذين جعلنا من هذه الشهادات بطاقات سفر إلى المناصب والمكاسب، بل ومنحناها الوجاهة الاجتماعية، ثم ترددنا كثيرا في الكشف عن المزيفين، الذين إن تعثرنا بهم ذات نزاهة، فعقابنا لهم لا يعدو أن يكون باهتا، إن لم يكن معدوما، بل كثيرا ما يكون عقابنا الباهت إغراء لبقية المترددين، ودعوة لهم للدخول في عالم التزييف والتزوير والنصب والاحتيال.

لكن، وفي كل الأحوال لا يأس، ففي وسط هذا الاحتيال العلني باسم المعرفة/ العلم، ثمة بوارق أمل للتصحيح، فنحن لا ننكر أن هناك جهودا فردية مستقلة، أو مرتبطة ببعض المؤسسات، تحاول ـ جاهدة ـ مطاردة هذه الظاهرة ومحاصرتها؛ حتى وإن كانت محدودة جدا، قياسا بحجم انتشارها.

ولأن الظاهرة خطيرة، ولأنها واسعة الانتشار؛ فإن التصدي لها لا يكون إلا بتضافر الجهود على أكثر من صعيد. ولعل أهم الخطوات العملية التي أقترحها هي إنشاء مؤسسة رسمية في كل بلد عربي لمكافحة هذه الشهادات على غرار “إدارة مكافحة المخدرات”، بحيث تمارس التفتيش الدوري على هذه الشهادات في كل المؤسسات العامة والخاصة، كما لا بد وأن تؤدي هذه المؤسسة دورا توعويا بهذه الظاهرة وخطورتها، إضافة إلى عملها على سن قوانين رادعة، ومتابعة إقرارها وتنفيذها في الوقائع المتعينة، ثم إشهار هذه العقوبات بالأسماء الصريحة للمزورين والمزور لهم؛ مع تقديم دور بارز للإعلام المستقل في هذا المجال.

أخيرا، لا بد من التأكيد على أن كثيرا من الشهادات الحقيقية في العالم العربي هي وهمية في مضمونها. بمعنى أن خطوات الحصول عليها قانونية شكلا، ولكنها مزيفة مضمونا. فالحصول على شهادة الدكتوراه في بعض جامعات العرب تكون بجمع أقوال السابقين وترتيبها، أو عرض آرائهم وتوظيفها أيديولوجيا، أو مجرد تحقيق تجاري لكتاب تراثي… إلخ العبث الذي يجري في كثير من جامعات العرب باسم العلم، والعلم منهم براء.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق