سوسن الأبطح
ما إن ترحل امرأة ذات وزن في مجالها، حتى يتسابق رجال السياسة اللبنانيون لنعيها والتأسف على فقدانها، وتذكُّر مآثرها. وكان تنافسهم المحموم، على الحزن والأسى لرحيل الصحافية والأديبة مي منسى، قبل أيام، ظاهرة بحد ذاتها.
وقبلها لم يبقَ منهم مَن لم يستذكر كتابات أملي نصر الله، ويذرف الدموع لوفاتها، حتى تظن أن القراءة عند أهل السياسة شيمة، والأدب لديهم ولع. وفي كل الأحوال، قد تكون يقظة عفية لو اقترنت بشيء من الجدية، وبعض الإدراك ولو المتأخر، أن للنساء في هذا البلد خدمات جليلة، ومهارات كبيرة يتجاهلونها عمداً، ولا يتذكرونها إلا في الوداع الأخير، وهو أمر لا ينطوي على براءة بقدر ما يداري خبثاً مبيّتاً.
فالتمثيل النسائي في السياسة اللبنانية ذكوري فاقع. ذكر الأسماء هنا لا يخدم في شيء. فهن إما وريثات أو قريبات لنافذين، أو في أحسن الأحوال مقربات من زعامات استطعن أن يثبتن طاعة لا تقل عما يظهره زملاؤهن الرجال للوصول إلى الغايات. ومعلوم أن الحس الأنثوي الفعلي في السياسة اللبنانية يوازي صفراً مربعاً، رغم التمنيات التي يكررها على مسامعنا المسؤولون، ورغبتهم «الجامحة» في رؤية المرأة وهي تتبوأ نصف المقاعد، وأحسن المناصب، وأرفع المهمات. هذا جزء من الإنشاء اللبناني المملّ، والبهرجة اللفظية على المنابر.
يتبين أن السياسيين، أو هكذا يقولون، يعرفون الفذّات، المحترفات من المخرجات. وهم يتباهون بنادين لبكي وهي تحصد الجوائز العالمية الدسمة، ويغرّدون على شرفها. لكنها حين ترشحت، ولو لتكون عضواً في بلدية، حوربت حتى النخاع، ولم تشفع لها موهبتها، ولا صرختها خوفاً من التلوث والفساد الذي يفتك بصحة أولادها وأطفال لبنان. وهم لا بد يعرفون زويا روحانا التي ترشحت للانتخابات النيابية بعد مسار مذهل في حملة «كفى عنفاً» ضد النساء، وكفاحها من أجل إنقاذ حياة المعذبات، وعدم تبرئة الأزواج القتلة، ومساواة المرأة اللبنانية بالرجل بإعطاء الجنسية لأبنائها.
ومع ذلك لا يبدو أن تناتُش الحصص الوزارية بين الأقطاب الكبار، يسمح بتوزيرها أو تعيينها مستشارة صغيرة للشؤون الاجتماعية التي تمرست بدروبها. وفي الأدب والفكر والتعليم لائحة طويلة من نساء كادحات، ليس لديهن الوقت لتملق زعيم، أو الوقوف على أبواب مسؤولين، لتقديم خدماتهن، فوقتهن أثمن من أن يضيّعنه في المتاهات العقيمة.
ولو عدنا إلى الراحلات، ممن رثوهن بحرارة، فهؤلاء جميعهن لم يكنّ من الصنف المستزلم، بل كنّ منكبّات بجهد مذهل على عملهن، مثابرات حد الإدهاش على المهمات التي نذرن أنفسهن من أجلها، ومع ذلك لم يُستشرن، ولم يُسألن، وكلهن عانين من اللا مبالاة، وتألمن من النكران، وسرن في درب الآلام وحدهن، غير آبهات بالظلم ولا مستنكرات التجاهل. وبالإمكان ملء الصفحات عن رحلة جوسلين صعب الشائكة لتمويل أفلامها، ومواجهة منتقديها ومهاجميها في لبنان وخارجه على السواء. ومي منسى نفسها، كانت تنظر بخوف شديد إلى المستقبل وهي ترى الصحافة الورقية تندثر، وجريدة «النهار» تتأرجح، وفقدان الرزق في آخر الأيام ليس هيناً. والمخرجة المسرحية سهام ناصر التي قضت قبل يومين، صحيح أنها غابت عن المسارح في سنواتها الأخيرة، لكن على يديها تتلمذ ممثلون كثر، وطلابها اجتهدوا بفضل دُربتها وجرأتها، وها هم يشكلون مسالكهم الخاصة، بفضل نزعتها التمردية، وحسها التحريضي الفني العالي. ولا داعي للتذكير بالمخرجة رندا الشهال التي عانت وصمدت، ومرضت في الغربة وقضت. وبالطبع هؤلاء جميعهن لم يُستشرن يوماً لا في سياسة ثقافية، ولا في قضايا فنية، ولا في استراتيجية وطنية.
الظلم في لبنان لا يقع على النساء وحدهن، فكل ذي كرامة يشعر بالنبذ والتهميش، لكن المرأة تُظلم مرتين، إن لم يكن أكثر. فهي وإن تمثلت اختُطف دورها، وزوِّر وجهها، وتم التحايل على قرارها. ولا نجازف حين نقول: إن السياسيين في لبنان لم يجرؤ أي منهم حتى اللحظة على الاستثمار في القدرات النسائية بمعزل عن الحسابات الضيقة، ولا يبدو أنهم يرغبون في التعاطي مع نساء موهوبات غير مرتهنات لسياساتهم المرسومة سلفاً.
ومع أنهم في غالبيتهم رجال أعمال محنكون، ويعلمون أنه حتى الشركات الصغيرة، باتت تدرك أن النظرة الأنثوية مختلفة، وأن أي مؤسسة لا تقوم إلا بتكامل النظرتين معاً، وبغير هذا تبقى الرؤية عاجزة والخطوات عرجاء. وبالتالي حين يراد للمرأة أن تتمثل بصدق، فبصوتها، وشخصيتها، ورؤيتها، وبحسها الأمومي، لا بالتماهي مع ما يُكتب لها من رجال، ويُرسم لتوافق عليه مذعنة، مغمضة العينين.
نساء لبنان لسن كلهن عارضات أزياء، وطالبات شهرة، ومحترفات عمليات تجميل. وهذا غبن آخر، يلحق بهن، حين تطغى صورة جاهزة على غالبيتهن المكافحة التي تكدّ في ظروف اقتصادية صعبة، وكان لهن الدور الأكبر في بقاء لبنان موجوداً، رغم الحروب المجنونة التي عصفت بهن وبأولادهن.
انعوهن ما شئتم، فهذا كرم منكم، لكن لا تنسوهن أحياء، ففي جعبتهن ما يمكن أن يسهم في إنقاذ هذا الوطن المتخبط في قبليته الذكورية حد الانتحار.
وقبلها لم يبقَ منهم مَن لم يستذكر كتابات أملي نصر الله، ويذرف الدموع لوفاتها، حتى تظن أن القراءة عند أهل السياسة شيمة، والأدب لديهم ولع. وفي كل الأحوال، قد تكون يقظة عفية لو اقترنت بشيء من الجدية، وبعض الإدراك ولو المتأخر، أن للنساء في هذا البلد خدمات جليلة، ومهارات كبيرة يتجاهلونها عمداً، ولا يتذكرونها إلا في الوداع الأخير، وهو أمر لا ينطوي على براءة بقدر ما يداري خبثاً مبيّتاً.
فالتمثيل النسائي في السياسة اللبنانية ذكوري فاقع. ذكر الأسماء هنا لا يخدم في شيء. فهن إما وريثات أو قريبات لنافذين، أو في أحسن الأحوال مقربات من زعامات استطعن أن يثبتن طاعة لا تقل عما يظهره زملاؤهن الرجال للوصول إلى الغايات. ومعلوم أن الحس الأنثوي الفعلي في السياسة اللبنانية يوازي صفراً مربعاً، رغم التمنيات التي يكررها على مسامعنا المسؤولون، ورغبتهم «الجامحة» في رؤية المرأة وهي تتبوأ نصف المقاعد، وأحسن المناصب، وأرفع المهمات. هذا جزء من الإنشاء اللبناني المملّ، والبهرجة اللفظية على المنابر.
يتبين أن السياسيين، أو هكذا يقولون، يعرفون الفذّات، المحترفات من المخرجات. وهم يتباهون بنادين لبكي وهي تحصد الجوائز العالمية الدسمة، ويغرّدون على شرفها. لكنها حين ترشحت، ولو لتكون عضواً في بلدية، حوربت حتى النخاع، ولم تشفع لها موهبتها، ولا صرختها خوفاً من التلوث والفساد الذي يفتك بصحة أولادها وأطفال لبنان. وهم لا بد يعرفون زويا روحانا التي ترشحت للانتخابات النيابية بعد مسار مذهل في حملة «كفى عنفاً» ضد النساء، وكفاحها من أجل إنقاذ حياة المعذبات، وعدم تبرئة الأزواج القتلة، ومساواة المرأة اللبنانية بالرجل بإعطاء الجنسية لأبنائها.
ومع ذلك لا يبدو أن تناتُش الحصص الوزارية بين الأقطاب الكبار، يسمح بتوزيرها أو تعيينها مستشارة صغيرة للشؤون الاجتماعية التي تمرست بدروبها. وفي الأدب والفكر والتعليم لائحة طويلة من نساء كادحات، ليس لديهن الوقت لتملق زعيم، أو الوقوف على أبواب مسؤولين، لتقديم خدماتهن، فوقتهن أثمن من أن يضيّعنه في المتاهات العقيمة.
ولو عدنا إلى الراحلات، ممن رثوهن بحرارة، فهؤلاء جميعهن لم يكنّ من الصنف المستزلم، بل كنّ منكبّات بجهد مذهل على عملهن، مثابرات حد الإدهاش على المهمات التي نذرن أنفسهن من أجلها، ومع ذلك لم يُستشرن، ولم يُسألن، وكلهن عانين من اللا مبالاة، وتألمن من النكران، وسرن في درب الآلام وحدهن، غير آبهات بالظلم ولا مستنكرات التجاهل. وبالإمكان ملء الصفحات عن رحلة جوسلين صعب الشائكة لتمويل أفلامها، ومواجهة منتقديها ومهاجميها في لبنان وخارجه على السواء. ومي منسى نفسها، كانت تنظر بخوف شديد إلى المستقبل وهي ترى الصحافة الورقية تندثر، وجريدة «النهار» تتأرجح، وفقدان الرزق في آخر الأيام ليس هيناً. والمخرجة المسرحية سهام ناصر التي قضت قبل يومين، صحيح أنها غابت عن المسارح في سنواتها الأخيرة، لكن على يديها تتلمذ ممثلون كثر، وطلابها اجتهدوا بفضل دُربتها وجرأتها، وها هم يشكلون مسالكهم الخاصة، بفضل نزعتها التمردية، وحسها التحريضي الفني العالي. ولا داعي للتذكير بالمخرجة رندا الشهال التي عانت وصمدت، ومرضت في الغربة وقضت. وبالطبع هؤلاء جميعهن لم يُستشرن يوماً لا في سياسة ثقافية، ولا في قضايا فنية، ولا في استراتيجية وطنية.
الظلم في لبنان لا يقع على النساء وحدهن، فكل ذي كرامة يشعر بالنبذ والتهميش، لكن المرأة تُظلم مرتين، إن لم يكن أكثر. فهي وإن تمثلت اختُطف دورها، وزوِّر وجهها، وتم التحايل على قرارها. ولا نجازف حين نقول: إن السياسيين في لبنان لم يجرؤ أي منهم حتى اللحظة على الاستثمار في القدرات النسائية بمعزل عن الحسابات الضيقة، ولا يبدو أنهم يرغبون في التعاطي مع نساء موهوبات غير مرتهنات لسياساتهم المرسومة سلفاً.
ومع أنهم في غالبيتهم رجال أعمال محنكون، ويعلمون أنه حتى الشركات الصغيرة، باتت تدرك أن النظرة الأنثوية مختلفة، وأن أي مؤسسة لا تقوم إلا بتكامل النظرتين معاً، وبغير هذا تبقى الرؤية عاجزة والخطوات عرجاء. وبالتالي حين يراد للمرأة أن تتمثل بصدق، فبصوتها، وشخصيتها، ورؤيتها، وبحسها الأمومي، لا بالتماهي مع ما يُكتب لها من رجال، ويُرسم لتوافق عليه مذعنة، مغمضة العينين.
نساء لبنان لسن كلهن عارضات أزياء، وطالبات شهرة، ومحترفات عمليات تجميل. وهذا غبن آخر، يلحق بهن، حين تطغى صورة جاهزة على غالبيتهن المكافحة التي تكدّ في ظروف اقتصادية صعبة، وكان لهن الدور الأكبر في بقاء لبنان موجوداً، رغم الحروب المجنونة التي عصفت بهن وبأولادهن.
انعوهن ما شئتم، فهذا كرم منكم، لكن لا تنسوهن أحياء، ففي جعبتهن ما يمكن أن يسهم في إنقاذ هذا الوطن المتخبط في قبليته الذكورية حد الانتحار.
الشرق الأوسط