أقلام مختارة

لبنان المسكين

حسين عبد الحسين

حسين عبد الحسين

كشف تدني مستوى التمثيل العربي في قمة بيروت الاقتصادية أن رئيس لبنان ميشال عون، الذي يسمي نفسه قويا، قوي على رئيس حكومته سعد الحريري فقط، أو على صحافيين من أمثال الزميل فداء عيتاني، أو على شباب طائش يشتم العهد وصهره وزير الخارجية جبران باسيل على مواقع التواصل الاجتماعي.

أما في دنيا الواقع، فعون ضعيف، وعاجز، ولا يحكم أبعد من أسوار قصره، ولا يدير أكثر من حصته في الفساد الإداري، وهو جزء من المشكلة التي ابتلي بها اللبنانيون: سياسيون لا تتسع البلاد لغرورهم، ولا تكفي مواردها لفسادهم، ولا تحتمل مآسيها انعدام كفاءتهم.

وللحق، لا بد التذكير أن الكارثة التي يعيشها لبنان لا تقتصر على سياسييه وتصريحاتهم المملة، بل سببها عدد من المصائب، أولها جزء كبير من الشعب اللبناني نفسه، المنقسم إلى قبائل متناحرة، تتباهى كل منها بزعيمها وشعاراتها عن القوة والشرف والرجولة والوفاء، وتغرق جميعها سوية في المآسي نفسها: اقتصاد يتآكل، ونقد أجنبي يشحّ، وبنية تحتية تتهالك، وأدمغة تهاجر، وانحدار لبنان على كل مقياس عالمي في الحكم ونوعية الحياة، باستثناء مقياسي التدخين والدين العام بالنسبة إلى الناتج المحلي، ويحلّ في كل منهما لبنان في المراتب الخمسة الأولى في العالم.

وللحق أيضا، لا بد التذكير أن لبنان لم يكن يوما دولة متجانسة ذات مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، بل إنه وطن صنعه الانتداب الفرنسي للمسيحيين؛ كما صنع دولة علوية في سوريا، وأخرى درزية، ودولتين سنيتين. واستعار الفرنسيون اسم جبل واحد ورد اسمه في العهد القديم، وأطلقوه على اسم دولة “لبنان الكبير”.

كما استعار الفرنسيون شعار الكنيسة المارونية في أنطاكية وسائر المشرق، وهي الأرزة الوارد ذكرها في العهد القديم أيضا، وألصقوها على العلم الفرنسي. ثم لتعزيز أعداد الموارنة، لتقوية المارونية السياسيّة في وجه السنّة، تمت إضافة مناطق الشيعة في بلاد عامل والبقاع، فساهم السياسيون الشيعة التقليديون حينها، في تعزيز قوة المارونية السياسية على مدى ثلاثة عقود، إلى أن تحوّلت الشيعية السياسية إلى قوة سياسية لبنانية محلية، ثم قوة سياسية إقليمية تعمل بإمرة “الجمهورية الإسلامية” في إيران.

وتبعية القبائل المتناحرة، التي تعيش في المساحة الممتدة بين حمص والمتوسط، لقوى إقليمية، يعود إلى زمن سحيق كان فيه الفينيقيون يتآمرون على بعضهم البعض. انحدروا من ثقافة واحدة ولغة واحدة، لكنهم لم ينجحوا يوما في توحيد مدنهم لإنتاج مملكة ذات شأن، بل إن دسائس الفينيقيين على بعضهم البعض وصلت إلى أرشيف فراعنة مصر في تل العمارنة، وكان ملك منهم يشكو جاره ويتآمر مع المصريين ضده. ثم ضعفت مصر، ووصل موفدها إلى الساحل الفينيقي، فتعامل الفينيقيون معه كقطاع طرق، وسلبوه ماله وثيابه، وأعادوه ذليلا إلى بلاده.

ورث اللبنانيون اليوم تآمر الفينيقيين على بعضهم، وورثوا كذلك تقلبات الفينيقيين، فعون نفسه جلس يوما في حضرة الكونغرس الأميركي يصف “حزب الله” بالإرهابي، ثم تحول عون إلى أكثر تابعي الحزب المذكور وفاء. ومن نافل القول، إنه لو ضعف “حزب الله” يوما، وخسر ماله أو سلاحه أو قوته أو نفوذه، فالغالب أن عون ومن يخلفه سيعودون إلى الكونغرس.

لهذا خسرت الطبقة الحاكمة في لبنان آخر ذرة احترام كان تكنها لها أي من الحكومات في المنطقة، وتحولت القمة العربية إلى دردشة هامشية على مستوى وزراء وسفراء.

لم يبن المؤسسون الفرنسيون لبنان على مبادئ عصر التنوير، وهي المبادئ التي قامت عليها الثورتان الأميركية والفرنسية، اللتان أنجبتا حكومتين ديمقراطيتين تتربعان على قمة التجارب البشرية في الحكم والحكومات اليوم.

تعامل الفرنسيون مع اللبنانيين كبرابرة المطلوب حكمهم وفقا للثقافة المحلية السائدة، فرحل الفرنسيون، ولم يخلفوا وراءهم وطنا فيه مواطنين، بل خلفوا خرابة، تغرق اليوم في الديون والقمامة والفساد والتلوث.

في عمره الذي يقارب القرن، سنحت للبنان فرصا ذهبية، استغل بعضها، ربما صدفة، مثل يوم تحول إلى ملجأ الأموال السورية والمصرية والعراقية الهاربة من جنون الضباط وتأميماتهم الفاشلة.

في العقد الذي تلا نهاية رئاسة كميل شمعون في العام 1958، عاش لبنان عصره الذهبي برعاية “دولة عميقة”، ولكن عمقها لم يكن كافيا، فنسفتها القبائل، وفتحت أبواب لبنان أمام الصراعات الإقليمية، فوصلت “حركة تحرير فلسطين”، (حتف) المعروفة بفتح إلى لبنان، وبدأ لبنان مشوار انحدار بلا توقف.

إبان اندلاع الثورة السورية كذلك، كان يمكن للبنان الإفادة من أموال المتمولين السوريين، وكان يمكن أن يتحول إلى مقر لمؤسسات رعاية اللاجئين العالمية، وأن يتحول إلى ساحة نقاش حرّ حول الشؤون الإقليمية.

لكنها فرصة أضاعها لبنان، الذي اقتلعته “الجمهورية الإسلامية” في إيران من حياده الممكن، وأدخلته في “محور المقاومة” واقتصادها، الذي يغني “الحرس الثوري” وأزلامه في الإقليم، ويؤدي إلى فقر وجوع “شعوب المقاومة”.

هكذا، بدلا من أن يعيش اللبنانيون في كرامة البحبوحة الاقتصادية الناجمة عن تفوق مواردهم البشرية، بفضل تقاليد السعي إلى العلم التي زرعتها الإرساليات المسيحية في الساحل الفينيقي العثماني في حينه، يعيش اللبنانيون اليوم في محور قائم على الدماء والسيوف والصواريخ والأنفاق والشهداء، وهو ما يعيدنا إلى الخيار المعروف؛ أي من الكوريتين تعيش بكرامتها: الجنوبية ذات العلم والصناعة التكنولوجية التي غزت العالم والتي تستضيف قواعد أميركية، أم الشمالية ذات الصواريخ والنووي والحصار الاقتصادي والمجاعة؟

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق