أقلام يورابيا

عن هند..وشريكها!

دانا النجداوي

ماذا تفعل الآن …؟
يهرول العم أبو رؤوف نحو بيته بعد أن أَتم دين يومه كاملاً بصلاة خامسة في مسجد الحي، يلقي السلام بإختصار ممنهج على أبوعامر وأبوأيمن وأبوطلال متجنباً الإستماع إلى أم أيتام تسكن ذات الحي جاءت تبحث عن ما تيسر من رأفة بين رواد المسجد. في ذات ممشى يرتطمُ العم كتفاً بكتف مع مزارع عربي شقيق دَأَبَ منذ سنوات على زراعة الأشجار وسقيها في حديقة منزل أبورؤوف، ودَأَبَ العم الرؤوف على مماطلته في دفع الأجور المستحقة إلى أن يقبل بتسوية مقدارها النصف مما وجب بعد وقت لم يحن بعد لذا فلا يرد عليه سلامه !
يهرع العم إلى بيته مسرعاً ليتفقد شَريكَهُ الإلكتروني، ذاك شريك الحياة الذي أَسْكتهُ العم لدقائقٍ معدودات ودسه بحرصٍ وذهب الى المسجد تواقاً لإستشعار الحكمة من صلاة الجماعة في الحياة الدنيا ، ورغوباً بسبعٍ وعشرين درجة إضافية يتفوق بها عن أم رؤوف في حساب الآخرة لأنها أمرأة ولم تكتب لها صلاة الجماعة !
وصل العم الى المنزل ، وضع نظارة بين كلتا عينيه ، أحتضن شريكه بين يديه وعلى عُجالةٍ ولج إلى البرنامجِ المُخضر( الواتساب ) وراح يرسل إلى المجموعات والأفراد في قائمته :
” إن صلاة الجماعة فيها فوائد كثيرة، ومصالح عظيمة، ومنافع متعددة شرعت من أجلها ومنها التوادد، وهو التحاب و معرفة أحوال بعضهم لبعض، فيقومون بعيادة المرضى، وتشييع الموتى، وإغاثة الملهوفين، وإعانة المحتاجين”.

ماذا تفعل الآن …؟

تنتهي يارا من تكديس طفلاتها الثلاث في غرفة نومهن ، تغلق عليهن الباب بإحكام وتتجه نحو أريكة الحب (Loveseat ) قبالة شاشة التلفاز الكبيرة في غرفة المعيشة ، تهبط يارا ووصيفاتها من دهون متقدمة ومتأخرة ومترهلة بسلام فوق الأريكة . تسحب شعرها المصبوغ بإستهتار إلى الوراء فتصنع كعكعة مروعة ،تتجرع النسكافيه وتقتات على حبات اللوز والفستق في إنتظار أن يبدأ تتر المسلسل التلفزيوني بصوت نوال الزغبي و الذي تقول فيه ( ملعون أبو الناس العٌزاز اللي لما أحتجنا ليهم طلعوا أندال بإمتياز ) ، يحدث هذا والشريك الإلكتروني يَلتفُ بين كفيها حول موجات الكتاب الأزرق ( الفيسبوك). تحدق يارا في الشاشةِ الصغيرةِ وتقرأ أن مارلين تشعر بالحب في تحديث حالتها الإفتراضية قبل دقيقتين ( مارلين إبنة خالتها الحنون وصديقة طفولتها ) ، فتشعر يارا بكيدِ حقيقيٍ غير مفترض ! فعلى الرغم من أن مارلين عاطلة عن العمل والأمل لظروف خارجة عن إرادتها ، إلا أنها تتحدث الإنجليزية بطلاقة وهذا مالم تستطيع يارا عليه نَصْرا.
الآن تتمنى يارا مزيداً من البؤسِ لمارلين و ترشُقُ قلباً أحمراً على حالتها وتتوج التعليق
(رسالة يوحنا الرسول الأولى 4: 7″ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ ”
مارلين حبيبة قلبي وروحي ، أتمنى لك السعادة الأبدية )
ماذا تفعل الآن …؟
تَرفعُ شروق وهي مسؤولة البرامج في إحدى منظماتِ الشفافيةِ الدوليةِ قفطانها المغربي إلى ركبتها و للمرة العاشرة ، تتأكد من أن البطانة تنسدل بإستقامة وتناسق ومن ثم تعود لترخي ذاك القفطان المذهب و الذي صمم لها بخمسةِ عشر مائةِ دينار من أجلِ خمسةِ عشر دقيقةِ يجتمع فيها خمسةُ عشر رجلاً في بيت والدها لتلاوة الفاتحة على نية التوفيق بينها وبين ذاك المهندس الوافدٍ من دبي. َتَلتقطُ شروق عشراتِ من صور السيلفي الآيفونية إلى أن تقذفَ بها والدتها بعظمةِ وإعتزاز إلى صالة الضيوف الذين تشرق عليهم شروق بغتةً فتُدهِشُهمْ بما أتاها مركز التجميل من تَنفُخٍ في الشفاهِ والخدودْ ،تلوينٍ العيونْ ،تركيبٍ الرموشْ،تصغيرِ الأنفْ وحَقْنٍ مَسْتورٍ فوق الخصرْ وتحت الظهرْ. يتقدم العريس المَجْدُود ويطبعُ القبلةَ الأولى على الجبين المغطى بالبوتكس، فتبدأ القصة الأولى التي ينشرها العريس على الإنستغرام ويكتب
” الحمدلله الذي بنعمه تتم الصالحات ، تمت اليوم قراءة فاتحتي على شروق حياتي ! إنها الإشراقة الطبيعية التي وهبني الله أياها أنا وحدي ”

ماذا تفعل الآن …؟
يلتصقُ عمر الذي ناهز منتصف الأربعينات فوق مقعدِ سيارته منذ بواكير الصباح، للحصول على طلبات التوصيل عبر تطبيقٍ ذكي ، يكرر رسم مدينته بخطوط من الوهم متقاطعةٍ ومتقطعة. وبمهارةٍ لا تحدث إلا مع آمثاله من البارعين، يبث عبر سناب شات لقطاتِ مباشرةِ للشجر والحجر والبشر ، للقهوة وركوتها ، للتبغ وماتبقى من سجائره ، للبيوت وساكنيها ولكل ماتصلُ إليه عدسةُ شريكهِ الإلكتروني بلا أية إستثناءات أخلاقيةِ أو فنيةِ تُذكرْ . تختنق حركة السير على طول النظر بسبب حادث تصادم مهيب وقع بين مركبتين فيقترب عمر ويلتقطُ سناباً تفصيلياً لسيلان دم المصابين وتقطعُ أحشاءهم ويكتبُ رسالة إلى جميع المتابعين يقول لهم فيها
” هذه نتيجة إستخدام الهاتف النقال أثناء القيادة ، لا حول ولاقوة إلا بالله ، حمانا الله وأياكم ”

ويحدث الآن … !
تلتحم هند مع شبه مقعد خشبي أنيق في مطبخ أمريكي ، ذاك مطبخ بلا قداسة ولا وقار ! وهل يُكب أهل البيت على وجُوههم في غرفة المعيشة إلا مكائد أجوفتهم وهم إلى الأطباق ناظرون في بيوت النظام الأمريكي؟
لكن ، ومع أن هند تقع الآن في عينِ غِلافٍ جويٍ مُتخمُ بروائح الطعام والشراب ، إلا إنها تعيش حالة من الإنفصال التام عن هذا المحيط وتحدقُ في شريكها الإلكتروني. لديها شريكُ مثقف يقرأُ ويكتبْ و يأوي داخل ثقب مخصص قلماً إلكترونياً جميلُ الفعالِ ممشوقُ القوامْ . تلاعب هند ذاك القلم بين أناملها فوق شاشة يبلغ قياسها ستة بوصات لا أكثر، تُمنحُ ما لايَتجاوزُ عن ثلاثِ ساعاتِ من الوقت في سبيل هذا الإقترانِ بينها وبين الشريك ،وهذا أقل من النصف الذي يُمزِقُهُ شباب عالمٍ عربيٍ على عوالمٍ إفتراضيةٍ .

الآن تقرر هند أن تحل الإرتباط بينها وبين شريكها وقلمه بخروج عن المألوف دون إقتراف أي خطيئة إفتراضية . لقد أسندتْ حقها الإفتراضي في التعليق والتعليم والتنبيه والتحذير إلى لبؤة فاتنة رسمتها ببراعة ودقة وإحتراف حتى نكاد سماع صراخها في وجه شريكِ إلكتروني وأخر حقيقي …
فلتحيا زوجةُ الأسد الحقيقية وتموت الإفتراضيات .

تعليق واحد

  1. فلتحيا ‘الدانا’ صاحبة القلم التي نسجت حروفا ذهبية
    ولتحيا ‘الهندُ’ التي رسمت لبؤة حرة حقيقية
    ولتسقط الوجوه والأقنعة وما يتوارى خلف العوالم الافتراضية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق