سناء العاجي
المكان: شركة خاصة في مدينة الدار البيضاء (المغرب)، تستقبل عددا كبيرا من الزبائن يوميا. في الفضاء المخصص للأداء والتسليم، توجد لافتة كبيرة كتب عليها ما مضمونه: “موظفونا لا يقبلون البقشيش ولا الهدايا”.
للوهلة الأولى، تبدو العبارة جميلة تبين بوضوح شفافية الشركة وأن الخدمة التي يتم تقديمها، لها مقابل مادي واضح هو ذلك المسجل على الفاتورة؛ وأن لا إلزامية لدفع أي مبلغ إضافي آخر، حتى لو كان على شكل هدية.
لكن، وبعد تفكير بسيط، تصبح العبارة موجعة. هذه اللافتة تترجم ببساطة أننا مجتمع يعيش حالة تطبيع مع الرشوة، للاستفادة من خدمات يفترض أنها حقه الطبيعي كزبون أو كمواطن. تطبيع كبير لدرجة يصبح معها العكس استثناء تجب الإشادة به.
الذي يحدث أنك تعطي مبلغا بسيطا لموظف، كـ”هدية” أو بقشيش، لكنه يتعود على ذلك البقشيش/الهدية فيصبح مع مرور الأيام غير قادر على القيام بعمله، الذي يتلقى من أجله أجرة، إلا إذا استفاد من البقشيش. هنا بالضبط، تتحول “الهدية” لرشوة، لأنها تصبح مقابلا لخدمة يفترض أن لا مقابل لها خارج ما هو معلن رسميا.
من بين مشكلاتنا العويصة، أننا نشتكي (عن صواب) من أشكال الخلل التي تغرق فيها مجتمعاتنا: الفساد بكل أشكاله، الرشوة، الفوضى، النفايات في الشارع… لكن هذه الممارسات، وإن كانت تترجم تهاون السلطات والمنتخبين المحليين في القيام بواجبهم (النظافة، البنيات التحتية، إلخ)، إلا أنها تترجم انخراطنا في نظام عام “غير المواطن”، ومساهمتنا في دعم هذا النظام اللامواطن.
هناك نفايات في الشوارع لأن السلطات المحلية لا تقوم بواجبها بشكل جيد في عملية التنظيف. لكن هذا يعني أيضا أن كثير من المواطنين يرمون النفايات في الشارع، حتى حين تتوفر صناديق القمامة. بل لا يتورع بعض الذكور (مثلا) عن التبول في الشارع العام بشكل وقح يساهم في العفن المحيط بنا، لكنه، أكثر من ذلك، يخلّ بالذوق العام وبمبادئ العيش المشترك والاحترام… وربما بالإنسانية بكل بساطة.
هناك فوضى في الشوارع لأن قانون السير لا يطبق إلا في إطار حملات موسمية وبشكل انتقائي، وبالتالي يعيش المواطن الذي يملك سيارة أو دراجة نارية إحساسا عاما بـ”الإفلات من العقاب”. سرعة زائدة، عدم احترام الإشارات، الركن في أماكن غير قانونية، إلخ. لا شيء يستدعي العقاب، إلا نادرا.
الكارثة أنه، حين يطبق القانون، يشعر سائق السيارة أو الدراجة بالظلم، حتى وهو قد ارتكب مخالفة فعلية. شعور قد نتفهم أسبابه حين نعرف أن لدى هذا المواطن الوعي بأن القانون لا يطبق إلا بين الفينة والأخرى. لذلك، فحين يطبق عليه، يشعر أنه “ضحية”.
هذا طبعا ليس تبريرا ولا شرعنة لخرق القانون. لكن الأكيد أنها مسؤولية مشتركة: شرطة المرور لا تطبق القانون بشكل صارم (تبقى لدي القناعة الأكيدة أن تطبيق قانون السير بشكل صارم وجدي ومستدام، وحده سيحل العديد من إشكاليات السير وتدبير الفضاء العام في المغرب). لكن إشكالية السلوك المواطن تبقى مطروحة وبحدة: السائق المغربي عموما، وخصوصا في مدينة الدار البيضاء، يمارس نوعا من الفوضى غير الخلاقة بتاتا، في علاقته بالطريق وبقانون السير. أنانية وعجرفة وشطط في استعمال الطريق وإشارات المرور تصنع من شوارعنا حربا حقيقية تقتل حوالي 11 شخصا يوميا (هو تقريبا نفس الرقم في فرنسا، لكن بتعداد سكاني يعادل قرابة الضعف مقارنة مع المغرب وبعدد سيارات يعادل ثلاث مرات عدد السيارات في المغرب).
في مدينة كتطوان ونواحيها، شمال المغرب، نجد سلوكا مختلفا بالمرة. علاقة السائق بالطريق هناك مختلفة ومتحضرة جدا: احترام الأسبقية للراجلين، احترام قانون السير وإشارات المرور، إلخ. فهل المواطن المغربي في تطوان غير المواطن المغربي في الدار البيضاء، أم أن هناك وصفة نجحت هناك وتصرّ السلطات على عدم استعمالها في باقي المدن؟
القضية ليست قضية قانون السير أو النفايات. هذه الفوضى العارمة يمكن أن نطبقها على علاقتنا بالمشترك العام: التجهيزات العامة، الفضاء المشترك في الإقامات السكنية سواء منها الشعبية أو الراقية، تدبير فضاءات العمل المفتوحة (open spaces)، إلخ: هناك خلل من طرف السلطات والمنتخبين وغيرهم، في القيام بمسؤولياتهم وفي تنفيذ القانون بشكل صارم وواضح وشفاف، وخصوصا تطبيقه على الجميع.
وهناك، من جهة المواطن، علاقة نفور مع السلوكيات المواطنة: ينتقد غيابها في بلده، لكنه يساهم بدوره في الفوضى العارمة. ينتقد السلوكيات السلبية لغيره لكنه يمارس نفس السلوكيات.
في النهاية، واقعنا المرير الذي ننتقده… نحن جزء فاعل فيه!
الحرة