فارس خشّان
خسر كارلوس غصن كل حاضره. أقيل أو استقال من الشركات التي أحدث فيها معجزات، حيث كان قد حوّل الخسارة والإفلاس إلى ربح ونهوض.
لم يبق لكارلوس غصن سوى براءته ليدافع بها عن تاريخه، بعدما امتلأ حاضره بروايات كسب المال ووفرة الذنوب.
النيابة العامة اليابانية لا ترحم. هي كذلك، ليس مع كارلوس غصن فحسب بل مع كل من يقع في براثنها.
لم تنفع غصن الجنسيات الثلاث التي يحملها.
لم تنفعه حملات المظلومية التي حاولت أن تخفف عنه العبء.
لا تريد النيابة العامة اليابانية أن تفهم اللغات الفرنسية والبرتغالية والعربية، ولا تريد مترجمين. تكتفي بلغتها وبقواعدها وبأدبياتها وبمحرماتها. وهي لا تأبه بالتهجمات على “قساوتها” لأنها محمية بقانون “يحفظ بلادها ومواردها واستقامتها”.
واليابانيون لا يتوقفون عند نجاحات غصن الاستثنائية، حتى يحظى بمعاملة استثنائية، فالتساوي أمام القانون، يكون بالنظر إلى السلوك النفعي وليس إلى الأشخاص. هذه الأفعال هي التي تكرم الشخص أو تهينه، وليس الشخص هو الذي يكرّمها أو يهينها.
ولأنّ اليابانيين هم كذلك، فكل الأصوات التي تصل إليهم معترضة لا تجد آذانا صاغية، ولا عقولا متفهمة، ولا نفوسا رضية.
لكن من تراه يقدر أن يلقّن أجهزة القضاء الياباني الدروس؟
يقارن الفرنسيون بين نظامهم القضائي الخاص بالتوقيف الاحتياطي وبين النظام الياباني. بعضهم يفاخر بما لديه، لأنه انطلاقا من احترام الحريات الشخصية، يمنع الظلامة التوقيفية الطويلة، في حال ثبتت البراءة. وبعضهم الآخر، يستاء من هذه المفاخرة، لاعتقاده بأنّ هواجس الضمانات الفردية تؤدي إلى فساد تمرره “الألاعيب القانونية”، الأمر الذي يتسبب حاليا بثورة “القمصان الصفر” التي تريد إحداث تغييرات جوهرية في النظام القائم، بحيث تصبح الديمقراطية الفرنسية على تماس مع إرادة المواطن المباشرة بمنحه قدرات واسعة على المساءلة ومراقبة مسارب المال العام.
ومن الواضح أن المسؤولين الفرنسيين، الذين قاوموا في البداية توقيف غصن، عادوا فاستسلموا أمام حزم الاتهام الياباني، الأمر الذي دفع غصن، وحتى لا تجري إقالته من شركة “رينو” التي بقيت آخر معاقله، إلى الاستقالة.
أما عن فاعلية تأثير التدخل اللبناني، فحدث ولا حرج.
لا يعرف أحد كيف هي ردة الفعل اليابانية على السلوك الرسمي اللبناني المدافع عن غصن، ولكن يسهل على المرء أن يتكهّن.
يسهل عليه أن يتكهّن قهقهات صاخبة، بعد أن يُنهي المسؤول الياباني قراءة رسالة رسمية، أو يغلق الباب وراء موفد رسمي، أو يفرغ من قراءة تقرير سفارته في بيروت.
ومن يدري قد يكون تدخل المسؤولين اللبنانيين دفاعا عن كارلوس غصن قد زاد الطين بلّة، إذ كيف يمكن أن يستقيم دفاع فاسدين، بنظر شعبهم وبنظر نوابهم وبنظر الوزراء زملائهم وبنظر المؤسسات الدولية وبنظر المعايير الموضوعية للنزاهة، عن كارلوس غصن المتهم بالفساد؟
من أين استمد هؤلاء المدافعون صدقيتهم حتى يصرفوها في اليابان لمصلحة غصن؟ هل من انتقالهم، فجأة، من حال العسر المدقع إلى حال الثراء الفاحش؟ أممّن ينتقمون منهم بسبب عدم رضوخهم لصفقاتهم، أم ممّن يدافعون عنهم لأنهم من أتباعهم؟ أم من سلوكية القضاة الذين يعيّنونهم؟
باريس استسلمت، أمام الاتهام الياباني. بيروت لن تفعل، فهي “أم الشرائع” المتجددة على يد وزير خارجيتها اللبيب الذي يعرض على واشنطن خبرات عظيمة في إنفاق المال من دون موازنة، وربما، في وقت لاحق، من دون أي اعتبار لا لدستور ولا لقانون.
وبذلك، فإنّ كارلوس غصن اللبناني ـ البرازيلي ـ الفرنسي الذي كان، حتى الأمس القريب، قدوة نجاح، أصبح اليوم عِبرة.
كلّ يتعاطى مع هذه العبرة من منظاره، ولكن الجميع متفق على أن النظرة الى المال هي حجر الزاوية فيها.
قد يكون كارلوس غصن بريئا. هذا ما ينادي به، وهذا ما يدفع من أجله مددا من التوقيف، لأن اعترافه بالذنب يؤدي إلى إخلاء سبيل مشروط.
ليس بيننا من يعرف الحقيقة، فتفاصيل الملف باليابانية، وتاليا فالبراءة أو الإدانة باليابانية.
ولكن جلّ ما نعرفه أن الوصول إلى القمة شيء والبقاء فيها شيء آخر. هاتان معركتان مستقلتان.
المعركة الأولى تحتاج، بالمبدأ، إلى كفاءة عالية. المعركة الثانية تحتاج إلى شفافية واضحة.
والأهم أن يكسب المرء المعركة الثانية، فخسائر الفشل فادحة، لأنه كلما ارتفعت القمة تتضاعف كوارث الهبوط.
في هذه الخلاصات، كارلوس غصن ليس أكثر من عبرة، لأن من يعتقدون بأنهم اليوم في القمة عليهم أن يعتبروا.
ثمة مسؤولون في لبنان، مثلا، يعتقدون بأنهم أوجدوا حبل الخلاص، بإفساد نظام المساءلة.
حتى الساعة، هم نجحوا في ذلك، ولكن وحده المزهو بنفسه ينسى أن هناك دائما عاصفة هوجاء تستعد لرميه من القمة إلى الجحيم.
في اليابان، وبمناسبة الدفاع عن كارلوس غصن، تلمّس هؤلاء ملامح هذا الجحيم.
الحرة