مصطفى زين
كانت استراتيجية الأسد الأب تقوم على أساس فك الحصار الإقليمي المفروض على سورية: إسرائيل تحاصرها من الجنوب، وتركيا من الشمال، وإيران الشاه من الشرق، وكان لا يطمئن إلى موقف لبنان والأردن ويعتبرهما الخاصرة الضعيفة. أما العراق، فعلى رغم شعاراته العروبية المطابقة لشعاراته ، وعلى رغم حكم حكم حزب البعث فيه، فكان خلافه معه مستحكماً إلى حدود العداء.
ما ان انتصرت الثورة في إيران حتى وجدنا الأسد الأب يساندها بكل ما أوتي من قوة، معتبراً أنه خرق الحصار، وأن طهران اصبحت إلى جانبه، فدعم الحكم الجديد ، مخالفاً كل المواقف العربية التي أعربت عن مخاوفها من تصدير الثورة إليها، خصوصاً انها رفعت شعار «الصحوة الإسلامية». وبقي على موقفه، على رغم اندلاع حرب الخليج الأولى التي استمرت ثمان سنوات. كما أرسل جيشه إلى لبنان لتأمين الخاصرة الضعيفة.
لكن فتح ثغرة في الحصار، قابله تشدد تركي في الشمال، وتهديدات إسرائيلية في الجنوب، وبدأت أنقرة تطالب دمشق بوضع حد لدعمها الأكراد وتسليمها زعيمهم عبدالله أوجلان وإغلاق معسكرات تدريب مقاتليه في البقاع اللبناني، وأرفقت مطالها بحشود عسكرية على الحدود كما حشدت إسرائيل قواتها من جهة الجنوب فاستجاب الأسد الأب للضغوط، ووقع عام 1998 ما عرف باتفاقية أضنة التي تنص على منع «الإرهابيين» الأكراد من اتخاذ سورية مقراً والإنطلاق منها في عمليات عبر الأناضول، كما تنص على حق الجيش التركي بملاحقة الإرهابيين في الأراضي السورية إلى مسافة خمسة كيلومترات.
هذا شيئ من التاريخ القريب جداً. أما حالياً فالحصار المطبق على سورية لم يعد تركياً وإسرائيلياً فحسب، ولم تعد الدولتان تطلقان مجرد تهديدات بالغزو، بل اصبحتا تنفذان هذه التهديدات عملياً: أنقرة تحشد جيوشها شمالاً، وترسل الإرهابيين من كل انحاء العالم، بعد تدريبهم وتسليحهم، وتفاوض باسمهم، مرة مع الدول الأوروبية وأخرى مع روسيا وأميركا، وتفرض شخصيات من قادتهم للمشاركة في وضع دستور جديد لسورية. أما إيران فغارقة في الحروب، تدافع عن النظام، لكنها في الوقت ذاته تتطلع ترسيخ علاقاتها التجارية مع تركيا، وتحاول أن تكون وسيطاً، لكنها وسيط من موقع المنحاز إلى يؤمن له مصالحه.
تبقى روسيا، وهي الأكثر استفادة من استقرار الوضع في سورية كي لا تغرق في المستنقع وتخرج منه مهزومة مثلما خرجت من أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. ومثلها مثل إيران، ترى في تركيا عاملاً يساعدها في تثبيت نفوذها في المشرق، حتى وإن اقتطعت جزءاً من الأراضي السورية.
يستغل أردوغان واقع حليفي دمشق، وحاجتهما إليه وعدم رغبتهما في المواجهة، كما يستغل انسحاب أميركا، ليعود إلى طرح مشروعه الأساسي، إقامة «منطقة آمنة» في الأراضي السورية تمتد مسافة 450 كيلومتراً بعمق 32 كيلومتراً. وكان طرح هذه الفكرة فور اندلاع الحروب على سورية وفيها عام 2011 ، وقد احتل جرابلس وعفرين، وبدأ عمليات تطهير عرقي فيهما وتتريكهما، ويسعى إلى توسيع رقعة «المنطقة الآمنة» بـ «التفاهم مع روسيا والولايات المتحدة»، على ما أعلن خلال لقائه بوتين هذا الأسبوع.
تركيا تحقق حلماً قديماً في ضم أجزاء من سورية، وإيران تمد نفوذها عبرها، وروسيا وصلت إلى المياه الدافئة، وإسرائيل تحررت من قوة كانت تشكل لها هاجساً، وأميركا عممت فوضاها «الخلاقة»… أما العرب فلا مشروع لديهم، وهم غارقون في متاهاتهم ودمائهم.
الحياة اللندنية