داود كتّاب
فوجئ العريس الشاب بكيفية إعداد زوجته لوجبة “الروست” إذ قضمت طرفي قطعة اللحم وألقتهما في سلة النفايات، قبل الشروع بإعداد الوجبة. وعندما سألها عن سبب فعلها، قالت إنها تنقل ما تعلمته من والدتها. وعند لقاء العريس بحماته استفسر منها عن طريقة الطبخ فقالت إنها نقلت بدورها ما تعلمته من والدتها دون أن تعرف سبب إلقاء أطراف الروست بسلة النفايات. بعد مدة قام بزيارة جدة العروس وأعاد عليها السؤال، فكان جوابها صادما: “كان الوعاء لدينا صغيرا ولم يكن يمكن وضع الروست فيه”.
تدل هذه الحادثة على أننا ننقل أحيانا عادات وطرق عمل دون البحث عن السبب وراءها، ونفاجأ عند معرفتنا السبب المخالف لتوقعاتنا، وأن له علاقة آنية متعلقة بظرف محدد قد لا يكون مستمرا في الوقت الحالي.
كثيرا ما نرى ونسمع ونواجه قرارات في البيت والعمل والوطن، لا يعرف أحد سببها رغم التمسك الشديد بها، وكأنها أمر منزل؛ في حين أننا لو بحثنا قليلا لكان من الواضح أن السبب الأصلي لها لم يعد موجودا.
في وضعنا الحالي في منطقة الشرق الأوسط، نواجه كثيرا من المشاكل الناتجة عن قوانين وإجراءات وأعراف نتمنى أن يتم إعادة النظر فيها، ولكن لا يوجد من يقرع الناقوس، ومن لديه الجرأة للنظر الحيادي بتلك القوانين والإجراءات والأعراف القديمة.
أحد تلك الأنظمة، هو ما يحدث يوميا على جسر الملك حسين الخاص بالمقدسيين المسافرين من فلسطين المحتلة إلى الأردن. المشكلة بدأت بصورة منطقية، فقد كان الجانب الإسرائيلي يصادر الهوية المقدسية عند السفر ويقدم بديلا عنها تصريحا للسفر لمدة ثلاث سنوات، وفي حال تأخر حامل التصريح عن العودة يفقد الهوية. الأمر نفسه كان يطبق أيضا على سكان الضفة الغربية.
ولكن بعد اتفاق أوسلو وصدور جواز السفر الفلسطيني أصبح لسكان باقي الضفة والقطاع إمكانية السفر بدون التصريح. كما قامت إسرائيل بتعديل أنظمتها، فتوقفت عن مصادرة الهوية عند السفر، كما تم توفير فرصة للمواطن المقدسي للسفر من خلال وثيقة سفر (اللاسيهباسيه)، ومؤخرا تم تمديد صلاحية “اللاسيه باسيه” إلى خمس سنوات.
لكن رغم تلك التغييرات، استمر ضباط الجسر الأردنيون بالإصرار على المطالبة بحيازة المسافر المقدسي للتصريح، الذي زادت تكلفته عبر السنوات الماضية لتصل مؤخرا إلى 230 شيكلا، “أي حوالي 63 دولارا” لكل فرد ولكل رحلة.
فالعائلة المقدسية التي ترغب بالسفر سيكلفها ثمن التصاريح مبالغ باهظة كل مرة. وبحساب بسيط للكلفة التي يدفعها حوالي 400 مقدسي يسافرون يوميا عبر جسر الحسين، فإن المواطن المقدسي “يتبرع” لإسرائيل، بدون أي ضرورة، بما يساوي 25 ألف دولار يوميا.
يقوم المسؤولون الأردنيون، الذين يعملون على أساس الأنظمة القديمة، بإعادة أي مقدسي يصل للجسر بدون تصريح مصرين على أنهم يقومون بذلك “حماية” لهم ولإقامتهم علما أن محامين فلسطينيين معروفين يقولون إن السفر عبر الجسر من غير التصريح لا يتسبب بفقدان الإقامة في القدس.
لقد حاول البعض التواصل مع الحكومات الأردنية والفلسطينية، وقام آخرون بكتابة مقالات وتوقيع عرائض تطالب بإعادة النظر بذلك النظام المؤذي لجيب المقدسي، إلا أن بعض المسؤولين مثلهم مثل تلك الزوجة الشابة، يصرون على قضم لحمة الروستو دون البحث الجدي عن سبب تلك القرارات، ودراسة ما إذا كان هناك طرق لإعادة النظر فيها.
قد يبدو الموضوع سخيفا للبعض، ولكن إن عرفنا أن المقدسي يستطيع السفر عبر مطار اللد الإسرائيلي إلى أي مكان بما فيه مطار الملكة عالية بدون تصريح، فإن أهمية الموضوع تبرز بوضوح.
لقد صرح جلالة الملك عبد الله الثاني في أكثر من مناسبة بضرورة دعم المقدسيين وتخفيف معاناتهم ولكن موضوعا بمنتهى البساطة، كموضوع التصاريح، لم يجد أي استعداد لدى المسؤولين لدراسته بصورة علمية وقانونية.
إن درس قصة المرأة وإعداد وجبات الطعام ليس محصورا على جهة معينة بل هو درس لنا جميعا، فمن الضروري بين الحين والآخر أن نراجع قراراتنا المتكررة وأن توجد لدينا القدرة على البحث والتمحيص والجرأة للتغيير إذا تبين لنا أننا نكرر التصرف الخاطئ وغير الضروري.
الحرة