رياض عصمت
رغم أنباء القمة الاقتصادية العربية ـ بغض النظر فيما إذا كانت نتائجها إيجابية وداعية للتفاؤل أم سلبية ومخيبة للأمل ـ تتصاعد في الإعلام اللبناني موجات تذمر ونقمة من الحال التي آلت إليها بيروت، المدينة التي خلدها الشاعر نزار قباني بلقب “يا ست الدنيا” في القصيدة الرائعة، التي لحنها جمال سلامة وغنتها ماجدة الرومي.
كانت بيروت في ستينيات القرن العشرين حلما في وجدان العرب أجمعين، بما كانت تمثله آنذاك من حداثة وتحرر وديمقراطية. أما في القرن الحادي والعشرين، فيعلو التذمر من تعطيل تشكيل الحكومة بسبب التعنت إزاء تقاسم الحصص فيها في صراع قوى متعددة، وتتجسد الأزمة في إدارة مطارها الدولي، الذي تتنازع السيطرة عليه عدة فروع استخبارات، وتضج الشكوى في بيروت من انقطاع الكهرباء وضعف الإنترنت وتراكم القمامة.
للأسف، تسير هذه المشاكل في طريق مسدودة، لا توحي بالعودة إلى ماضي لبنان التليد الذي تغنت به فيروز بشاعرية، وكرس له سعيد عقل بعض أجمل قصائده. رغم هذه اللطخ السوداء على اللوحة الجميلة، ورغم الحرب الأهلية الطاحنة خلال 15 سنة، ورغم احتدام الصراعات نيابة عن قوى إقليمية طامعة بالهيمنة على لبنان، ما زالت بيروت تحتفظ بما لا يستهان به من سحرها السياحي والثقافي القديم، وما زالت قبلة للسياح العرب والأجانب بما تتمتع به فنادقها ومطاعمها وملاهيها من خدمات ورفاهية، وما تكتظ به مولاتها من ماركات تغري بالتسوق، وما يحفل به إعلامها التلفزيوني الفضائي من تنافس إخباري يفوق عدد سكان لبنان المحدود بكثير ويتميز عن عديد من المحطات الخليجية الممولة بسخاء، بل نلاحظ أن عدة برامج منوعات ومسابقات مما اشترت المحطات الخليجية حقوق إنتاجه عربيا تصور في بيروت، وليس من دبي.
بعد احتدام الأزمة السورية، صار لبنان ينتج سنويا مسلسلات تلفزيونية مشتركة، تضم فنانين سوريين ولبنانيين، فضلا عن بعض فناني مصر والخليج أحيانا. تابع بعض تلك الأعمال التلفزيونية تزيين الأحلام الجميلة كما في الماضي. أما في السينما، فسلط الضوء على البؤس الحاضر بأقسى صوره، ذلك البؤس الذي تتجنب إظهاره عادة أجهزة الإعلام.
نادين لبكي رقم صعب في تاريخ السينما العربية المعاصرة. إضافة إلى كونها من قلائل المخرجات السينمائيات في العالم العربي، (إلى جانب مفيدة التلاتلي من تونس، شيرين دعيبس من فلسطين، إيناس الدغيدي وأسماء بكري من مصر)؛ فهي ممثلة موهوبة.
استطاعت نادين لبكي عبر إخراج ثلاثة أفلام روائية فقط أن تبلغ القمة، وأصبحت من ندرة مخرجي السينما العرب الذين رشحوا لأوسكار أفضل فيلم أجنبي عن فيلمها “كفرناحوم” (2018)، وهو شرف لم يحظ به سوى المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد عن فيلميه “الجنة الآن” (2005) و”عمر” (2013)، في حين أن يوسف شاهين لم يحظَ بالترشيح للأوسكار رغم فوزه بجوائز عالمية عديدة خلال حياته المهنية المديدة. أما المخرج اللبناني مارون بغدادي، صاحب فيلم “خارج الحياة” (1991)، ففاز بالجائزة نفسها التي حازها فيلم نادين لبكي “كفرناحوم”، وهي جائزة لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان “كان” السينمائي الشهير.
تناول أول أفلام لبكي “سكر نبات” (أو “كاراميل” 2007) قصص خمس فتيات يعملن في صالون حلاقة وتجميل تنضوي وتحفل بالكوميديا الرومانسية. شكل فيلم المخرجة التالي “وهلأ لوين؟” (2011) قفزة في الأسلوب، فضلا عن الموضوع ذي الأبعاد الرمزية عن الحرب الأهلية. مزج فيلم الواقعية بالأسلبة، والمأساة بالملهاة، وضمن الموسيقى والحركة بعض مشاهده، ووصلت فيه الكوميديا الراقية إلى مستوى رفيع يذكر المشاهد بروائع “الواقعية الجديدة زهرية اللون في إيطاليا”.
جدير بالذكر أن فيلم “وهلأ لوين؟” حصد عديدا من الجوائز العالمية، كما حقق نجاحا في شباك التذاكر في مختلف أرجاء العالم. لذلك، لم يكن غريبا أن تتولى شركة “سوني” العالمية التي تولت توزيعه القيام بتوزيع فيلم نادين لبكي الثالث “كفرناحوم” (2018)، وهو فيلم من طراز مختلف تماما عن كل من فيلميها السابقين.
يروي “كفرناحوم” قصة صبي لبناني في قرية تقع إلى الجنوب اللبناني يرفع قضية في المحكمة على والديه لأنهما أنجباه، وذلك بعد أن دخل سجن الأحداث لأنه طعن الشاب الذي استغل وضع أسرته البائس وتزوج أخته القاصر متسببا في موتها بنزيف حاد.
يدور الفيلم في منطقة مغمورة، شديدة البؤس، تعج باللاجئات غير الشرعيات واللبنانيين الذين لا يحملون هوية في أكواخ وعشش صفيح، وتحفل بكل ما يخطر على البال من الممنوعات، وصولا إلى تهريب اللاجئين إلى تركيا والسويد بوثائق مزورة.
بعد تزويج أخته عنوة لقاء المال، يهرب زين من بيت والده السكير وأمه التي لا تتوقف عن الإنجاب رغم الفقر المدقع والعمالة المبكرة اللذين يعاني منه أطفالها في قرية “كفرناحوم” البائسة. يتشرد زين في بحثا عن عمل، ولا يجد سقفا يؤويه إلا عند شابة أثيوبية هربت من خدمة سيدتها بعد أن أنجبت طفلا غير شرعي، وذلك خوفا من الترحيل.
تعمل الشابة سرا بهوية مزورة، لكنها تؤوي زين ليساعدها في الاعتناء بطفلها خلال ساعات غيابها في العمل. في الوقت نفسه، يبتزها وغد شرير يعمل بالإتجار بالبشر وتزوير الوثائق، ويلحّ عليها أن يأخذ الطفل منها ليبيعه إلى أسرة ترغب بتبني طفل، وهي ترفض وتقاوم أن تحرم من ولدها.
ذات يوم، تلقي الشرطة القبض على الشابة الأثيوبية، فيضطر زين وحده أن يعتني بالطفل الجائع، إلى أن يصيبه اليأس من الحصول على عمل، فيوافق على تسليم الطفل للوغد الشرير مقابل أن يؤمن له الهجرة إلى بلد أجنبي. يصرّ الوغد على ضرورة أن يجلب زين وثيقة تثبت هويته، فيعود إلى بيت أهله ليكتشف موت أخته القاصر بسبب تزويجها القسري المبكر، فيحمل سكينا ويطعن زوجها ليساق إلى سجن الأحداث.
رغم المآسي التي يحفل بها الفيلم، تنتهي أحداثه فجأة نهاية سعيدة، إذ تقرر المحكمة منح زين هوية لبنانية، يلقى القبض على الوغد الذي يتاجر بالبشر، ويعاد الطفل الأثيوبي إلى أمه في مشهد جعل الدموع تنثال من أعين المشاهدين الأميركيين مثل الفرنسيين في مهرجان “كان” ومثل العرب في كل مكان.
نال الفيلم تقييما عاليا قدره 8.1 درجة، وربما كان من سوء حظه منافسته في مسابقة الأوسكار للفيلم المكسيكي “روما”، الذي أجمع النقاد على الإعجاب به. صور الفيلم كريستوفر عون، قام بمونتاجه كونستانتين بوك، وألَّف الموسيقى له خالد مزنر.
فيلم “كفرناحوم” فيلم واقعي وشديد القسوة يتناول جانبا مجهولا ومهملا من العاصمة العربية الحلم بيروت، لكنه يحفل في الوقت نفسه بلمسات مضحكة وطريفة. أبدع في الأداء بطله الطفل السوري المهاجر زين الرفاعي، والطفل الذي لا يتجاوز العامين بولطيفي تريجر بانكول، والشابة الأثيوبية يوردانوس شيفراو، إضافة إلى الممثلين اللبنانيين المحترفين فادي يوسف وكوثر الحداد في دوري الوالدين.
لا شك أن نادين لبكي لعبت على وتر محبذ ومرغوب لدى الذوق الفرانكفوني عامة، ودغدغت المزاج الغربي الشغوف بما هو غريب في الشرق الأوسط.
في فيلمها الثالث، تعمدت نادين الابتعاد عن الأسلبة، بل عن أية نزعة فنية تؤكد وجودها كمخرجة، مقابل الانغماس في بحث اجتماعي دؤوب ضمن شريحة من البشر تعيش تحت خط الفقر، ونبش قصص حافلة بالكوميديا السوداء. تركت الكاميرا تلتقط الواقع كما هو، حتى باضطراب في اللقطات يوحي بالكاميرا الخفية أو بالتسجيلية.
لكنني ما زلت أعتقد أن فيلم “وهلأ لوين؟” هو أفضل أفلام نادين لبكي فنيا، بالرغم من أن إخراج “كفرناحوم” ليس سهلا على الإطلاق، بل هو مهمة بالغة الصعوبة، خاصة مع الاعتماد على أشخاص معظمهم من غير الممثلين، وبعضهم أطفال صغار السن.
لعل ما ينقص هذا الفيلم المهم هو ما قبلت نادين لبكي التنازل عنه طواعية لتحقيق مزيد من المصداقية والإقناع، ألا وهو اللمسة الشاعرية التي تعيد صياغة الواقع المأساوي بطريقة أكثر فنية وتأثيرا، تماما كما فعل أكيرا كوروساوا في فيلمه الشهير “دوديسكادن”، الأمر الذي عبر عنه المخرج الياباني العظيم ذات يوم بشكل بليغ، قائلا: “الكاميرا هي عين شاعر”.
الحرة