عريب الرنتاوي
قائمة الدول والجماعات الداعمة بقوة لنظام الرئيس الفنزويلي المطعون بشرعيته نيكولاس مادورو، قصيرة نسبيا، بيد أنها تشتمل على مروحة واسعة من المرجعيات غير المتجانسة: روسيا ـ بوتين، إيران ـ خامنئي، سوريا ـ الأسد وتركيا ـ أردوغان، مضافا إليها خليط غير متجانس أيضا من الأحزاب والقوى اليسارية والقومية العربية، وبعض الأحزاب والجماعات الإسلامية، وإن بقدر أقل من الحماسة.
لكل دولة من الدول الأربع المذكورة، أسبابها الخاصة لدعم الرئيس الفنزويلي اليساري ونظامه السياسي، على الرغم من اختلاف مرجعياتها وتصادم رؤاها الأيديولوجية مع “بوليفارية مادورو اليسارية”، أما القاسم المشترك الأعظم فيما بينها فيتجلى في العداء للولايات المتحدة، التي تناصب بدورها هذه الدول الأربع عداء بعداء، وتفرض على ثلاثة منها عقوبات صارمة، وتلوح بتدمير اقتصاد الدولة الرابعة: تركيا، إن هي استهدفت حلفاء واشنطن في شمال شرقي سوريا… هذا أمر مفهوم في السياسة والعلاقات الدولية، إذ ما زالت قاعدة “عدو عدوي صديقي” تفعل فعلها، مع أنها في كثير من الأحيان، خطرة ومضللة.
ثم أن هذه الدول الأربع تشترك وإن بتفاوت، في كونها مصنفة “غير ديمقراطية” أو “ديمقراطية جزئية”، ولم تكن قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان يوما معيارا تسترشد به وهي تخُطّ ضوابط ومحددات سياساتها الخارجية وعلاقاتها مع النظم والحكومات الأجنبية… وجميعها (الدول الأربع) من دون استثناء، تورطت بأقدار متفاوتة في قمع شعوبها، أو في دعم دكتاتوريات وأنظمة دموية قاتلة لشعوبها وقامعة لمعارضيها.
قد يرى البعض أن المفارقة إنما تقع في مواقف اليسار العربي من فنزويلا شافيز ـ مادورو، إذ أظهر دعما غير مشروط لهذه التجربة، ولم يكلف نفسه عناء مطالعة سيرورتها ومآلاتها. لكنني في الحقيقة لم أر في موقف اليسار أي جديد مفارق، إذ سبق له وأن سقط أخلاقيا وقيميا في غير تجربة وأكثر من مناسبة، وأظهر أن ميله لتبني خطاب ديمقراطي ـ حقوقي، لم يكن ميلا أصيلا، وإنما اضطراريا ومن باب الانحناء أمام موجة المطالبة بالدمقراطية وحقوق الإنسان، فضلا عمّا يستنبطه من ميول انتهازية، تشفُّ عن فهم “أداتي” للديمقراطية بوصفها سلما للوصول إلى السلطة فقط، وطريق ذي اتجاه واحد نحوها، وليس ثقافة ونمط حياة وقبول بالآخر وتعدد وتداول سلمي إلى غير ما هناك من مفاهيم مُؤسِسة للديمقراطية.
لقد دعم اليسار العربي أنظمة حكم ديكتاتورية ودموية في المنطقة، من نظام العقيد معمر القذافي إلى نظام الرئيس صدام حسين، مرورا بنظام الأسد، الأب والابن، وهو توجه إلى طهران زرافات ووحدانا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي على وجه الخصوص، ويقيم علاقات تحالفية غير مشروطة، وأحيانا استتباعية، مع قوى ومنظمات دينية ـ شمولية، ولا يجد في ذلك أية غضاضة أو تناقض… ومن الطبيعي والحالة كهذه، أن تقيم فصائل وأحزابه الدنيا ولا تقعدها تضامنا مع مادورو، ومن دون التفات للإخفاق الذريع للتجربة الفنزويلية في النهوض بالبلاد والعباد، وفي شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية.
لا يهم هذا اليسار إن كانت فنزويلا، الدولة الغنية بمواردها الطبيعية والنفطية، من أفقر دول العالم، وأن يهجرها ملايين المواطنين إلى دول الجوار القريب والبعيد بحثا عن لقمة العيش؛ ولا تهمه الاعتقالات الجماعية ومئات القتلى والجرحى الذين سقطوا في آخر موجات الاحتجاج والتظاهر. فطالما أن الزعيم مادورو يهتف ضد واشنطن وينتصر لفلسطين، حتى وإن كان لفظيا فحسب، فذلك يكفي لأن يكون بطلا عالميا وامتدادا لغيفارا وكاسترو وتشافيز وغيرهم من رموز “الكفاح العالمثالثي” ضد الإمبريالية.
مع أن هذا اليسار “المزدوج” و”المنفصم”، يقيم الدنيا ولا يقعدها ضد حكومات بلاده، وتجارب كثير منها تفوقت على التجربة الفنزويلية بكافة معايير الإنجاز، من معدلات النمو ودخل الفرد ومستويات الرفاه والتعليم والصحة، إلى مستوى الحريات العامة المتحققة في البلاد. هذا اليسار لا يبدو مهتما بحياة “الجماهير ورفاهها وسعادتها”، مع أنه الأكثر انشغالا بها على المستوى اللفظي.
هذا اليسار معني فقط بـ”الجملة الثورية”، فإن صدرت عن هذا الزعيم أو ذاك النظام، تكفيه مؤونة، و”تكفيه شر القتال”، وليس مهما أن تكون هذه الجملة يسارية، فقد تكون جمل من عيار “الشيطان الأكبر” و”الموت لأميركا” كافية بدورها لتمحو ما تقدم من ذنوب هذا النظام أو ذاك… وما تأخر.
على أن “الانفصام” و”الازدواجية” ليستا صفتين لصيقتين باليسار العربي وحده. فمواقف اليمين الأميركي والغربي (الشعبوي بخاصة)، كما تجلت في الأزمة الفنزويلية تفوح بـرائحة النفاق و”المعايير المزدوجة” كذلك… فنحن لم نجد كل هذه “الحميّة” في الخطاب والمواقف الأميركية حين أقدم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على مقارفة جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بكل صفحاتها الوحشية والمروعة، ولا عندما شن أوسع وأشمل حملات الاعتقال والتنكيل بخصومه ومعارضي نظامه، ومن شتى المرجعيات. ونحن لم نر كل هذه “البسالة” في الدفاع عن حقوق النساء السعوديات المعرضات للاغتصاب والتعذيب والتحرش في السجون السعودية، لمجرد مطالبتهن بحقوق أساسية لم يعد أحد في العالم ممنوعا من ممارستها.
كما أن دعم الإدارة الأمريكية لكثير من الدكتاتوريات في المنطقة العربية، حتى وهي في ذروة انتهاكها لحقوق مواطنيها ومطاردتهم خارج البلاد كذلك، وتقديم مليارات الدولارات لهم على شكل مساعدات اقتصادية وعسكرية وأمنية (مصر)، يلقي بظلال كثيفة من الشك حول صدقية المزاعم الأميركية في الانتصار للديمقراطية وحقوق الإنسان في فنزويلا، ومن حق مواطني هذه البقعة من العالم التساؤل: هل الديكتاتورية حرام في القارة اللاتينية وحلال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
من حق دول هذه المنطقة وشعوبها أن تتساءل، لماذا يطلب إلى مادورو مغادرة السلطة وتنزع الشرعية عن نظامه، ويترك الخيار العسكري في التعامل معه على طاولة الرئيس الأميركي والبنتاغون، فيما نحن لا نرى سلوكا مماثلا حيال نظام الرئيس السوداني عمر حسن البشر، المطلوب من محكمة الجنايات الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفي الوقت الذي يسقط فيه المتظاهرون في مختلف المدن السودانية بالعشرات والمئات بين قتيل وجريج، ويزج بأضعاف هذه الأعداد في السجون والمعتقلات. هل نظام الخرطوم أكثر ديمقراطية من نظام كاركاس وأقل دموية منه؟
لماذا يكفي أن يكون الديكتاتور في العالم العربي صديقا لإسرائيل، ومتجها للتطبيع معها، حتى يصبح مغفورا له أن يفعل ما يشاء بمن يشاء. لماذا يكفيه أن يشهر سيف العداء لإيران، حتى يصبح مجازا له أن يطارد معارضيه وتقتيل خصومه، ومطاردة شعبه في كل الشوارع والأزقة، وأن يضرب عرض الحائط بكل المواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان؟ أليست هذه المواقف والسياسيات المزدوجة، هي التعبير الأشد فظاظة عن “الانفصام” و”النفاق” كذلك؟
الحرة