السلايدر الرئيسيشرق أوسط
الفرنسيّون يلعبون على الخطّ بين بيروت وتلّ أبيب… والإسرائيليّون ينتظرون الاقتراع بأصوات الشواكيش!
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ بعدما بات في حُكم المؤكَّد أنّ ركائز معادلة الردع الاستراتيجيّ المفروضة بموجب النتائج الميدانيّة المترتِّبة عن “حرب تمّوز” عام 2006 بين لبنان وإسرائيل ازدادت رسوخًا على خلفيّة كافّة المواقف التي عبَّر عنها الأمين العامّ لـ “حزب الله” السيّد حسن نصر الله خلال مقابلته التلفزيونيّة المباشِرة مساء السبت الفائت مع “قناة الميادين”، وخصوصًا تلك التي تضمَّنت تحذيرًا صريحًا لرئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو من عواقبِ “الخطأ في التقدير” قبل الانتخابات المقرَّرة في شهر نيسان (أبريل) المقبل و”فعلِ شيءٍ طائشٍ”، وبالتالي لعموم الإسرائيليّين من أنّ “نتنياهو قد يرتكب الأخطاء نتيجة طموحاته”، جاء الخبر المريب الذي نشرته صحيفة “معاريف” الإسرائيليّة البارحة عن أنّ وزير الخارجيّة الفرنسيّ جان إيف لودريان طلب من رئيس الدولة العبريّة رؤوفين ريفلين أثناء زيارته الأخيرة لباريس عدم القيام بأيِّ عملٍ عسكريٍّ ضدَّ لبنان قبل تمكُّن الرئيس المكلَّف سعد الحريري من تشكيل حكومته العتيدة ليفتح بابًا واسعًا للجدل في أوساط اللبنانيّين، ولا سيّما أنّ عناصر الارتياب منه تكمُن بالدرجة الأولى في تزامُنه مع الإعلان عن وقفِ الإمدادات العسكريّة الفرنسيّة المخصَّصة للجيش اللبنانيّ وإلغاءِ زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون التي كانت مقرَّرة الشهر المقبل لبيروت تعبيرًا عن رفض باريس الكامل للأعمال العسكريّة لـ “حزب الله”، ناهيك عن أنّه حمَل بالتالي في طيّاته تجسيدًا جليًّا لمواقفَ فرنسيّةٍ تبدو في مختلف الأحوال والظروف فضفاضةً وحمّالةً للأوجُه حيال سبُل التعاطي مع الملفّات الشرق أوسطيّة الشائكة، بما فيها تداعيات الأوضاع الداخليّة اللبنانيّة الراهنة، سواءٌ عن طريق الإيحاء للإسرائيليّين بقدرة قصر الإليزيه على تغيير خيارات قصر بعبدا المبنيَّة في الأصل على قناعةٍ راسخةٍ بوجوب تحصين معادلة الردع الاستراتيجيّ الآنفة الذكر في الجنوب أم عن طريق الإيحاء للبنانيّين بمدى فاعليّة الدور الفرنسيّ في التأثير على تحديد توقيت الحرب الإسرائيليّة المقبلة، علمًا أنّ مجرَّد إجراءِ أيِّ قراءةٍ رصينةٍ ومتأنيّةٍ لواقع حال الارتصافات القائمة حاليًّا في منطقة الشرق الأوسط، روسيًّا وأميركيًّا وإيرانيًّا وتركيًّا وخليجيًّا، لا بدَّ من أن يُظهِر في المحصِّلة النهائيّة أنّ الرئيس ماكرون يحاول ارتداءَ بدلةٍ أكبرَ من مقاسه بكثيرٍ في الحالتين اللبنانيّة والإسرائيليّة على حدٍّ سواء.
عِبرة جاك شيراك
وعلى رغم أنّ هذا الكلام لا ينطوي على أيِّ نيَّةٍ مبيَّتةٍ للتقليل من شأن الحضور التاريخيّ الفرنسيّ في المنطقة، سواءٌ خلال أزمنة الانتداب أم خلال المراحل اللاحِقة، فإنّ الأمانة المهنيّة تستوجب التنويه بأنّ الحاجة إلى استخدام توصيف المقاسات هنا جاءت في الأصل بالمقارنة مع ما قُدِّر للرئيس الديغوليّ العتيق والمعتَّق جاك شيراك أن يجسِّده من حجمٍ كبيرٍ لبلاده على الساحة الدوليّة بشكلٍ عامٍّ، وفي ملفّ الصراع العربيّ – الإسرائيليّ على وجه الخصوص، ولا سيّما إذا أعدنا للذاكرة تجلّيات صوَره المشرِقة والمشرِّفة التي التُقِطت يوم الثاني والعشرين من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 1996 عندما تصدّى بصدره لقوّات الأمن الإسرائيليّة أثناء تدخُّلها لاعتراض طريقه بين كنيسة القيامة والمسجد الأقصى في مدينة القدس، وهو التصدّي الذي جاء في سياق خطوةٍ جريئةٍ وغيرِ مسبوقةٍ لرئيسِ دولةٍ أوروبيّةٍ عريقةٍ يُفترَض أن يُسجَّلَ مجرَّدُ الإقدامِ عليها كعِبرةٍ مؤثِّرةٍ في تاريخ الأمم والشعوب على طول خارطة العالم وعرضها، بما فيها بالطبع هذه المساحة الجغرافيّة الشاسعة التي ما زالت تُسمّى بقدرةِ قادرٍ وطنًا عربيًّا من المحيط إلى الخليج.
عُقدة نتنياهو
وإذا كان اثنان لا يختلفان على أنّ الصُدفة وحدها هي التي تقف وراء تزامُن هذه الخطوة الفرنسيّة اللافتة مع صعود نجم بنيامين نتنياهو في الحياة السياسيّة الإسرائيليّة بُعيْد مرورِ أشهرٍ قليلةٍ فقط على الانتهاء من مراسم تشييع رئيس الوزراء الراحل إسحاق رابين إلى مثواه الأخير في أعقاب اغتياله بالرصاص داخل تلّ أبيب على أيدي المتطرِّف اليهوديّ من أصلٍ يمنيٍّ إيجال عامير يوم الرابع من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1995، فإنّ اثنين لا يمكن أن يختلفا في الموازاة أيضًا على أنّ تقصير الدول العربيّة الواضِح والفاضِح في مجال البناء على خطوة الرئيس شيراك والاستثمار فيها، سياسيًّا ومعنويًّا ووجدانيًّا، سرعان ما أتاح الفرصة تلو الأخرى أمام نتنياهو لكي يبدأ بالانقضاض متنمِّرًا على حصاد العمليّة السلميّة الذي توارثه بالأفضليّة عن كلٍّ من سلَفيْه في رئاسة الوزراء، أيْ رابين الضحيّة وخليفته المؤقَّت بالوكالة شمعون بيريز، بدءًا من امتناعه لعدّةِ أشهرٍ عن لقاءِ ومصافحةِ الرئيس الفلسطينيّ الراحل ياسر عرفات لأسبابٍ قيل إنّها تتعلَّق بمسؤوليّة منظّمة التحرير عن مقتل شقيقه الأكبر جوناثان نتنياهو أثناء قيام الكوماندوس الإسرائيليّين بعمليّةِ تحريرِ ركّاب طائرة الخطوط الجوّيّة الفرنسيّة التي اختُطِفت إلى مطار عنتيبي في أوغندا يوم الرابع من شهر تمّوز (يوليو) عام 1976، مرورًا باشتراطه إعادة النظر في “اتّفاق أوسلو” جملةً وتفصيلًا قبل الشروع في إجراءِ أيِّ جولةٍ جديدةٍ من المفاوضات مع الفلسطينيّين، ووصولًا إلى انتهاء ولايته الحكوميّة الأولى عام 1999 في ظلّ معطياتٍ راحَت تؤشِّر باضطرادٍ إلى دخول العمليّة السلميّة في نفقٍ موحِشٍ وحالِكِ الظلام.
شهادة رابينوفيتش
وربّما ليس من باب المبالغة القول هنا إنّ المتخصِّصين في متابعة الشؤون الإسرائيليّة لا يمكن أن يجدوا التوصيف الأكثر بلاغةً في التعبير عن الإرهاصات التهوُّريّة لسياسات بنيامين نتنياهو حيال العمليّة السلميّة في الشرق الأوسط إلّا إذا عادوا إلى دلالات ما كان السفير الإسرائيليّ السابق في الولايات المتّحدة الأميركيّة إيتامار رابينوفيتش قد عبَّر عنه خلال مقابلةٍ خاصّةٍ مع “قناة الجزيرة” في شهر شباط (فبراير) عام 1997 داخل مكتبه في “دايان سنتر” في جامعة تلّ أبيب، وخصوصًا عندما فسَّر أسباب استقالته من السِلك الديبلوماسيّ وعودته إلى العمل الأكاديميّ بالقول إنّ “لا جدوى في إضاعة الجهد والوقت للبحث عن السلام (مع العرب) طالما أنّ نتنياهو موجودٌ في رئاسة الوزراء”، الأمر الذي يعني في إطار ما يعنيه أنّه كان يُدرك مسبَّقًا أنّ الرياح الإسرائيليّة خلال مرحلة ما بعد اغتيال رابين ستجري بما لا تشتهيه سفن مدريد وأوسلو، وبالتالي، بما لا يتناسَق مع طموحات شخصيّاتٍ فاعِلةٍ قُدِّر لها أن تأخُذ الخيار السلميّ داخل المجتمع الإسرائيليّ على محمل الجدّ، ولا سيّما إذا أعدنا للذاكرة أنّ رابينوفيتش نفسه كان قد تفاوَض بشكلٍ مباشِرٍ وفقًا لآليّات “مؤتمر مدريد” مع نظيره السوريّ وليد المعلّم، وذلك عندما كانا يعملان بصفة سفيرين لبلديهما في واشنطن، ناهيك عن أنّ تلك المفاوضات كادت تُفضي بالفعل وقتذاك إلى وضع اللمسات الأخيرة على مسودّةِ اتّفاقِ سلامٍ نهائيٍّ بين سوريا وإسرائيل، تقوم بموجبه دمشق بتقديمِ جرعاتٍ إعلاميّةٍ سخيّةٍ في مجال التعبير عن الرغبة في التطبيع تمهيدًا لإقرارِ مشروعٍ في الكنيست الإسرائيليّ يقضي بشرعنة الانسحاب من مرتفعات الجولان، مع إبقاء مسألة حقِّ الطرفين في الاستفادة من بحيرة طبريا متاحةً للبحث في جولاتٍ تاليةٍ من المفاوضات.
الأقنعة الزائفة
على هذا الأساس، وبصرف النظر عن دلالات ما تقدَّم ذكره حول تقصير الدول العربيّة الواضِح والفاضِح في مجال البناء على خطوة الرئيس شيراك والاستثمار فيها، سياسيًّا ومعنويًّا ووجدانيًّا، يُصبح في الإمكان القول يقينًا إنّه إذا كان قيام دولة إسرائيل فوق مساحة فلسطين التاريخيّة قد شكَّل نكبةً للعرب منذ عام 1948 ولغاية اليوم، فإنّ وصول بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الوزراء عام 1996 شكَّل في الموازاة نكبةً لكلٍّ من الإسرائيليّين والعرب على حدٍّ سواء، وبكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، ولا سيّما بعدما أصبح في حُكم المؤكَّد أنّ نزعاته التهوُّريّة حيال خيار السلام التي جسَّدها خلال ولايته الحكوميّة الأولى، وإنْ كانت قد خضعَت بين الحين والآخر لعمليّاتٍ تجميليّةٍ متباينةٍ وغيرِ متناسِقةٍ خلال ولايات كلٍّ من إيهود باراك وأرييل شارون وإيهود أولمرت اللاحِقة، ولكنّ الأقنعة الزائفة لم تظهَر على حقيقتها إلّا بعد عودته مجدَّدًا لتسلُّم مهامّ المنصب نفسه منذ عام 2009 ولغاية اليوم، وهي الأقنعة التي تتجلّى تِباعًا من خلال المحاولات المتتالية للقفز فوق إنجازاتٍ سلميّةٍ قُدِّر لأسلافه أن يسطِّروها بجدّيّةٍ على صفحات التاريخ، خلافًا لما لا يزال يحاول أن يدّعيه لنفسه من إنجازاتٍ وهميّةٍ، أكاد أجزم للتوّ بأنّ الإسرائيليّين باتوا يعرفون الآن، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، أنّ لا مكان لها على الإطلاق في دفاتر التاريخ… وحسبي أن أجزم للتوّ أيضًا بأنّ أصداء مقابلة “قناة الميادين” مع الأمين العامّ لـ “حزب الله” السيّد حسن نصر الله سيكون لها بالغ الأثر، اعتبارًا من يوم السبت الفائت وحتّى إشعارٍ آخر، في تحديد إبرة بوصلة الناخبين في الدولة العبريّة لدى توجُّههم إلى صناديق الاقتراع في شهر نيسان (أبريل) المقبل، سواءٌ من خلال طرَقات الشواكيش أم من خلال لغة المنطق، وبأنّ موضة البدلات الفرنسيّة الفضفاضة التي لا تتناسَب أصلًا مع مقاسات عارضيها التقليديّين لم تعُد مناسِبةً في الوقت الراهن لترويجها في أوساط غالبيّة اللبنانيّين، اللهمّ إلّا إذا ارتضى البعض من هؤلاء اللبنانيّين لأنفسهم المشاركة في حفلاتٍ تنكُّريّةٍ لا طائل منها، ولو إلى حينٍ، على حساب زيِّهم الوطنيّ المرصَّع حاليًّا بشعار “الجيش والشعب والمقاومة”… والخير دائمًا في التذكير برمزيّة هذا الشعار وفي حثِّ الأقرَبين والأبعَدين على وجوب وضعِه في الحسبان وعدم التوجُّس منه والتفاعُل معه بأريحيّةٍ تامّةٍ من وراء القصد.