حسين عبد الحسين
تحولت معركة الحرية التي يخوضها الفنزويليون ضد نظام الرئيس المطعون بشرعيته نيكولاس مادورو إلى مواجهة كلامية عالمية بين معسكرين: الغربي الديمقراطي من ناحية، وباقي العالم الذي تعيش دوله في ظل “حكام إلى الأبد” من ناحية ثانية.
طفح كيل الغرب من مادورو فأنهى الاعتراف بشرعيته. أما “حكام إلى الأبد” ـ في روسيا والصين وإيران وتركيا وسوريا وغيرها ـ فرأوا في اهتزاز مادورو ما يهدد نموذجهم، وأطلقوا ألسنتهم ووسائل إعلامهم لفبركة الأخبار حول “تدخل أميركي”، لم يحصل، في فنزويلا، في محاولة لاستعادة خطاب “الحرب الباردة”، التي انقسم فيها العالم إلى حر ديمقراطي، وآخر معادي للديمقراطية ويتهم الديمقراطيين بالإمبريالية.
والإمبريالية هي شتيمة اختلقها “حكام إلى الأبد”، وصوروها على أنها أساس الشر، وسبب بلاء الشعوب، وأن خلاص الشعوب يكمن، لا في العيش في حرية وديمقراطية وعدالة، بل في مواصلة خوض المعركة ضد الإمبريالية.
ولأن لا “صوت يعلو فوق صوت المعركة”، فلا حديث عن أسباب انهيار فنزويلا، ولا محاولة لتقييم واحدة من أفشل تجارب الحكم في العالم، التي بدأت بانقلاب الضابط هوغو تشافيز وثورته البوليفارية القاصرة فكريا والتي قوضت أسس الحكم، واستغلت عائدات النفط لبناء شبكة ريعية موالية لتشافيز ومسرحياته الشعبوية. ثم تابع مادورو، خلف تشافيز، قيادة البلاد نحو الهاوية، إلى أن تجاوز التضخم عتبة عشرة آلاف في المئة، وصارت كراكاس عاصمة الجريمة والجوع في المعمورة.
وفي العقل العربي أن الامبريالية وصلت شواطئ مصر على متن سفن نابليون العسكرية في العام 1798، وأن ذلك التاريخ شكل بداية انحدار النعيم المتخيل الذي كانت تعيشه الشعوب العربية تحت حكم السلطنة العثمانية، وصولا إلى الانتداب الأوروبي في المشرق ومصر، وتأسيس إسرائيل كموطأ قدم إمبريالي مزعوم. وبعد العام 1979، انضمت إيران إلى جوقة الشعوب المنددة بالإمبريالية و”ربيبتها إسرائيل”.
لا يرى مناهضو الإمبريالية أنه لولا حملة نابليون، لكان عالم الفراعنة ما يزال مجهولا، ولكان الهرم، الذي عامله السكان المحليون كمقلع صخور، اختفى. ولا يرى مناهضو الإمبريالية أنه لولا تغلب الإمبريالية الأوروبية على نظيرتها العثمانية، لكان استقلال نصف الدول العربية مستحيلا.
ولا يرى ملالي إيران الحاكمون اليوم أنه لولا الإمبريالية البريطانية، لكانت عربستان، الشاطئ الإيراني للخليج ذات الغالبية العربية، دولا عربية. ويكرر حكام إيران، ومعهم تيار واسع من الأميركيين، أن الخطيئة الأميركية الكبرى كانت دعم واشنطن ولندن للانقلاب على حكومة محمد مصدق، المنتخبة في العام 1953. طبعا لا يهم أنه لولا أميركا الداعمة للشاه، لما استطاعت طهران إجبار بغداد على التنازل عن شط العرب، الممر المائي الوحيد للعراق على الخليج، في اتفاقية الجزائر 1975.
ولا يرى مناهضو الإمبريالية العرب أنه لولا الولايات المتحدة، لما كان رئيس مصر الراحل جمال عبد الناصر نجح بتأميم قناة السويس في العام 1956.
ومناهضو الإمبريالية غالبا ما يقدمون روايات تغرق في تناقضات فاضحة؛ مثل بعض سياسيي العراق (بعض الأحزاب الشيعية)، الذي وصلوا الحكم في بغداد على ظهور الدبابات الأميركية، والذين حمتهم المقاتلات الأميركية من إمكانية احتلال تنظيم داعش الإرهابي العاصمة العراقية. يصر هؤلاء السياسيون العراقيون، ومعهم عرابيهم الإيرانيين، أن الإطاحة برئيس العراق السابق صدام حسين هو أمر هامشي، وأن أميركا هي التي كانت نصبته حاكما للعراق أصلا، ثم أطاحت به، أي أن لا فضل لأميركا باقتلاعه. ويردف هؤلاء، بكثير من البلاهة والاستخفاف بعقول البشر، أن داعش، الذي قادت أميركا واحدة من أقسى الحروب لاقتلاعه من شمال العراق وغربه، هو صنيعة أميركية.
وهكذا دواليك، تكرر مجموعة “حكام إلى الأبد” العالمية المقولات نفسها: تتهم الحكام المتحالفين مع الغرب الديمقراطي أنهم صنيعة الإمبريالية رغما عن إرادة شعوبهم. أما الحكام المعارضين للغرب الديمقراطي، فتقدم لهم مجموعات “حكام إلى الأبد” كل الدعم المادي والمعنوي الممكن، معللة تدخلها هذا، الذي لا يختلف عن تدخل الإمبريالية، بأنه تلبية لرغبة الشعوب.
هكذا، ترسل موسكو قاذفتين استراتيجيتين إلى كاراكاس، وتقدم مئات المرتزقة الروس لحماية مادورو من شعبه، ثم تتحرك الدعاية الروسية، ومعها الإيرانية وغيرها، بالصراخ ضد تدخل أميركي متخيل في شؤون فنزويلا.
على أننا إن أردنا تقييم تدخلات الدول في شؤون بعضها البعض، فلا بأس من بعض الأمثلة. الكويت واليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا هي صنيعة الإمبريالية الأميركية المفترضة. هذه الدول الثلاثة تتصدر العالم في نوعية الحياة والبحبوحة والمدخول المرتفع والعلم والطب والصناعة.
أما الدول التي تتدخل فيها روسيا، مثل كوريا الشمالية وفنزويلا وسوريا، فهي دول تتغنى في معاداة الإمبريالية، فيما شعوبها تكاد تلتهم الكلاب والقطط لسد رمقها وإطعام عيالها. كذلك نماذج الدول التي “انتصرت” فيها إيران على الإمبريالية، مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان، التي إما تعاني من العنف والحروب أهلية، أو تحولت إلى دول فاشلة.
من نتائج الإمبريالية كوريا الجنوبية، التي تستضيف قواعد عسكرية أميركية، والتي غزت العالم بصناعاتها التكنولوجية الخارقة. أما نتائج مناهضة الإمبريالية، فكوريا الشمالية، صاحبة النووي والصواريخ والنار، والتي يموت شعبها الجوع.
لفنزويلا، تمنياتنا بانتصار الإمبريالية فيها على حاكمها وعلى باقي “حكام إلى الأبد”، علّها تخرج من عصرها الظلامي المميت إلى عصور النور والحياة.
الحرة