أضحت المعارضة المدنية في مصر بلا أنياب تفتقد الحضور السياسي والنديّة الإعلامية بعكس ما كانت عليه فور نجاح الثورة المصرية في عام 2011، بينما تحول المعارض المصري إلى خائن لوطنه أو عميل لدول أجنبية بحسب ما يصوره الإعلام المصري الرسمي وغير الرسمي، حتى باتت الشريحة الأكبر من المعارضة مستكينة، تخشى أن تتخذ موقفا سياسيا معارضا لكي لا تتعرض للتشويه الإعلامي ولكي تحمي نفسها من المطاردات أمنية كانت أو قضائية.
الاستقرار الأمني هو المبرر الرئيسي الذي يتصدر مبررات السلطة في مصر في مساعيها الدؤوبة نحو كبح جماح المعارضة المصرية وتحويلها إلى شئ من الماضي ذهب ولم يعد، يحدث هذا في ظل استمرارية معارضة التيار الإسلامي المتشدد المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين ضد النظام المصري من خلال القنوات الفضائية التي تُبث من خارج مصر، فضلا عن تنامي معدلات المعارضة الشعبية ضد أداء الحكومة المصرية من خلال الفضاء الإلكتروني ومواقع “السوشيال ميديا” هذه المعارضة الصادرة من مواطنين مصريين ليس لهم توجه سياسي.
لا شك في أن التيارات الدينية الإسلاموية التي اقتحمت العمل السياسي المصري، تحديدا منذ منتصف القرن الماضي شكلت تهديدا حقيقيا للحياة المدنية واستقرار الدولة، بل ومثلت أداة تخريب فاعلة في الحياة السياسية بإقحام النزعات الدينية والعنصرية فيها، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن المعارضة المدنية المصرية تشاركها نفس التهديد أو تشابهها في نفس الخطورة، ومن ثم فمن الظلم الجمع بينهما في خندق واحد.
لا توجد دولة في العالم يمكن أن تنعم بالرخاء والتقدم بدون إتاحة الفرصة للرأي والرأي الآخر طالما ينعم الرأيين بالسلمية والنضج، في كافة المجالات سياسية كانت أو دينية أو ثقافية، وبغير هذه الإتاحة تتحول الأوطان إلى الرؤية الواحدة المقدسة والرأي الواحد القويم الذي لا شريك له الذي لم تطرقه دولة إلا وكان طريقها عصيبا مليئا بالأشواك ومؤديا للانحدار، لأن الله خلق البشر في تنوع فكري وثقافي واختلاف في المواهب والقدرات يلزم معه إتاحة حرية ممارسة الاختلاف والتنافس الشريف المؤدي إلى التقدم.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: إلى أين تذهب المعارضة المدنية المصرية؟
كل المحاولات الجادة لتواجد المعارضة المدنية على الساحة السياسية المصرية طوال الفترة الماضية بائت بالفشل بعد أن واجهتها موانع وعراقيل مباشرة وغير مباشرة من مصادر مختلفة داعمة للسلطة، وهذا يعني أن الإرادة السياسية الراهنة رافضة لأي تواجد معارض بأي كيفية ومن أي سبيل ما يُتوقع معه استمرار حالة الانغلاق السياسي التي يعاني منها الشارع السياسي المصري، وما يترتب عليه من استمرار موت الحياة السياسية في مصر.
منع تواجد المعارضة السياسية المصرية تدعمه أعداد كبيرة من الشعب المصري لما فيه من توفير للأمان والاستقرار حسبما يتصور هؤلاء خوفا من تكرار حالة عدم الأمان التي برزت بوضوح في أعقاب الثورة المصرية في عام 2011 في ظل عدد هائل من التظاهرات وانفلات أمني غير معهود، وهذا الدعم الشعبي للنظام ضد المعارضة المدنية المسالمة يزيد قبضته وتقييده للحركة السياسية ويجعل من الصعب تحركها مرة أخرى.
لقد أصبح الفضاء الإلكتروني هو الوسيلة الوحيدة للمصريين الغاضبين للتعبير عن رأيهم المعارض في أي موقف أو قرار حكومي أما الأحزاب السياسية المصرية فلم يعد لها دور سياسي غير مناصرة السلطة في مواقفها وقراراتها أيا كان نوعها، خوفا من وضعها في القائمة السوداء ومعاملتها معاملة عدائية من قبل أجهزة الدولة، وأكبر نشاط شعبي يمكن أن تقوم به أكبر الأحزاب وأكثرها نشاطا الآن هو تنظيم ندوة أو مؤتمر ثقافي أو شيء من هذا القبيل لتبتعد عن وظيفتها الرئيسية كأنها لم تنشأ من الأساس.
ما يغفله الكثيرون أن حالة كتم المعارضة التي تمر بها السياسة المصرية في الوقت الحالي يمكن أن يسفر عنها انفجار سياسي إن آجلا أو عاجلا بسبب حجب الطرق السياسية البديلة وعدم تمثيل المواطنين بكل فئاتهم السياسية حق التمثيل، فالاستقرار لا يتحقق فقط بتوفير الأمن الشرطي والعسكري، إنما يتحقق أيضا برؤية ناضجة للساحة السياسية تسمح بمعارضة سلمية تمثل تنفيسا لطاقات المواطنين وإتاحة الاختيار بين توجهات سياسية متعددة تمكنهم من التعبير عن انتقاداتهم أو الانتماء إلى من يمثلهم سياسيا، فإذا ألقينا بأنظارنا على ما قبل قيام “ثورة يناير” المصرية سوف نرى تواجدا واضحا للأمن الشرطي والعسكري في الشارع المصري كما الآن وربما بأكثر قوة ومع ذلك لم يستطع هذا التأمين وذلك الاستقرار منع الثورة من الاشتعال وما أعقبها من حالة انفلات أمني بعد وصول أفراد الشعب إلى حالة من الضغط والاختناق المؤدي إلى الانفجار.
أيضا، من أخطار خلو الساحة السياسية من المعارضة اتجاه الكثير من الشباب ممن لا يجدون طريقا سياسيا معارضا يمثلهم نحو التيارات الدينية المتشددة لينتمي إليها باعتبارها بديلا وحيدا يمكن أن يفرغ فيه طاقاته الفكرية المؤيدة لاختلافه مع النظام الحاكم ما يمكن أن نعتبره نتيجة كارثية تجعل من غلق أبواب المعارضة المدنية السلمية مفرخة للإرهاب والتطرف، لذا فإن خلو الساحة السياسية المصرية من المعارضة لا تقل خطورته عن التطرف الديني، فإذا كان الثاني ينتج إرهابيين يقدسون أفكارهم ويقتلون من يختلف معها فإن الأول يدفع آلاف الشباب إلى ممارسة المعارضة السياسية بشكل عنيف بالانضمام للتيارات المتطرفة فضلا عن أنه يهيئ العقول للتشدد في الرأي والمبالغة في التمسك به.
اندثار المعارضة المصرية ليس في صالح أحد من المصريين، حتى السلطة في حاجة إلى إحياء الممارسة السياسية والمعارضة السوية الخالية من العنف لدى المصريين منعا من الانفجارات الشعبية في المستقبل، وسعيا إلى القضاء على الفكر المتشدد والتيارات الدينية المتطرفة التي تهدد استقرار الدولة والتي تجد في غلق القنوات السياسية تربة خصبة لاستقطاب الشباب الباحث عن التمثيل والتحقق.
كاتب مصري