محمد المحمود
يقول الشاعر العربي القديم/ أبو حيّة النميري:
نظرتُ كأنّي من وراء زجاجة * إلى الدار من ماء الصبابة أنظرُ
لم أقف على الأطلال بَعدُ، ولكني هكذا أبدو؛ عندما أتوقّف عن القراءة، هكذا أبدو؛ عندما ألقي برأسي للخلف، وأكفّ ـ لدقائق معدودة ـ عن الاطلاع القرائي كممارسة عملية أو إمتاعية، فأنظر ـ متأملا، ومُتألما في ابتهاجٍ خافت ـ إلى أكثر من سبعة آلاف كتاب ورقي تحتضنها أروقة مكتبتي المُكونة من غرفتين متمايزتين؛ بينهما حَلّ وارتحال، وزحام وخصام، واحتفاء وإقصاء، وعناق وصدود، في سياق رحلة حب منسوجة خيوطها مع خيوط زمن رومانسي جميل لا تزال خيالاته السابحة في فضاء الذاكرة مُعطّرة بأنفاس الراحلين.
بدأت رحلة الانتشاء بالجمع والتنقيب والامتلاك منذ أيام الدراسة الثانوية؛ قبل ثلاثين عاما تقريبا. بدأت هذه الرحلة على استحياء، واهنة، بل وعاجزة أحيانا، ثم تصاعدت وتيرتها بالتساوق مع إيقاع ما يجود به الدهر العنود الحرون من دراهم معدودة لم أكن فيها من الزاهدين. صحيح أن الغرام يتصل بالغرام فيُغري، وأن الكأس تِلْوَ الكأس لا تُروي، وإنما تزيد الظمآن ظمأ؛ فتُغري بعشرات الكؤوس الأخرى، ولكن، ما جدوى الأشواق الجامحة إن لم يُسْعِد الحال/ المال.
إذا كان المال/ الثمن الذي يستنزفه الكتاب حاضرا في معادلة الأشواق بالنسبة لذوي الدخل المحدود من أمثالي، فإن الكتاب القابع في أي زاوية من مكتبتي تتجاوز قيمته المادية ـ فضلا عن المعنوية ـ ثمنه المادي المُعتاد في المكتبات ومعارض الكتب والأسواق (على اعتبار أن ثمنه فيها بالمتوسط في حدود: عشرة دولارات للكتاب الواحد)، إذ ليس كل كتاب أبْخل به عن قصد، وأصونه عن “ابتذال الإعارة” جاءني يمشي الهُوَينى؛ كما تمشي صاحبة الأعشى ـ مرَّ السحابةِ ـ من بيت جارتها، لم يأتِ منقادا ـ كخلافة أبي العتاهية ـ يُجرّر أذياله من عتبات المكتبة التجارية الواقعة في الشارع الرئيسي لمدينتي، ولا سقط عليّ سقوط الندى، ليلة لا نَاهٍ ولا زاجر؛ من أدنى رَف في أقرب معرض للكتب في وطني.
لم يستقر القرار بهذا الكتاب أو ذاك في مكتبتي إلا بعد مخاض عسير من رحلات ورحلات، عابرة للدول قبل أن تكون عابرة للمدن، أشتدّ لها على عُسْرٍ دونه اليُسْر، فلا يسندها إلا كونها في شرخ الشباب الأول، حينا إلى القاهرة بمعارضها ومكتباتها وأسواقها الشعبية للكتب، وأحيانا إلى بيروت ودمشق وحلب وعمّان والمنامة، ومؤخرا إلى الدار البيضاء وطنجة وتونس، حيث الكتاب الذي إن سَهُل عليّ؛ فتناولته عَفْوا من المعروض على واجهات المكتبات الشهيرة في هذه المدينة أو تلك، فهناك كثير مما اقتنصته من على قارعة الطريق وقوفا على الأقدام لساعات قد تطول وتطول، و من دهاليز تلك المكتبات المتوارية في زوايا الحارات العتيقة التي قد تستنزف الزيارة الواحدة منها ساعات طوال، أو ربما يوما بأكمله، أقتطعه من ساعات رحلة محدودة مكدودة أحاول لملمة أطرافها بعد أن ينضب معين الوقت ومعين المال أو يشارفا على ذلك؛ ثم لا أظفر بعد ذلك إلا بالقليل، وربما بأقل القليل.
ما بيني وبين الكتاب الورقي في مكتبتي ليس حب المصادفة العابرة، ليس حب اللهو العاصف المستخف الذي يمحو آخرُه أوّلَه، ليس حب الوجبات العاطفية السريعة، ليس عشق النظرة الأولى التي تدير الرؤوس بخمرتها، ولكنها سرعان ما تصحو على واقع مفعم بالملل الذي يطفو النفور على سطحه؛ ثم يستحيل فيصير هجرانا وفراقا بلا وداع.
ما بيني وبين الكتاب الورقي علاقة حب من طريف وتالد، علاقة حب تنسج غَزْلَها عشرات الألوف من الساعات الطوال، الدافئة ألفة وحنانا؛ عندما كانت تستند على الحيطان ـ بكل ما في جمالها الباذخ وجلالها الشامخ من إغراء ـ كمعشوقة ناجي؛ تُلقي بيدها نحوي كَيَدٍ من خلال الموج مُدّت لغريق؛ عندما كانت ثواني الانتظار جمرات في دمي وأنا أقرأ أو أجلو وجه “الأطلال” وأخواتها؛ فيومض في خاطري طالع يأس أبدي يضيء لي حقيقة قاتمة تهمس في أعماقي أن كل جمال، وكل حب/ عشق يخلقه هذا الجمال، سينتهي إلى أن يكون خرائب أطلال.
عندما تساقينا الهوى، يشهد لي عندها انزوائي لتتبع بقايا الظل في الصيف اللاهب والعرق يُبلّل جبهتي بحثا عنها، تشهد لي ارتعاشات يديّ المتجمدتين في الشتاء القارص وأنا أتنقل من ميدان إلى ميدان، معتقدا أنها هي تعاويذي من كل شرور الشتاء أو أمراض الشتاء، تشهد لي الحقائب البلاستيكية التي مزّقت أطراف راحتي بحملها، بينما الأشواقُ تستصرخُ مِنّي وَاهِي القُوَى، مُتَمَثلة بقول الحلاج:
ولو قدرتُ على الإتيان جئتـُكم * سعياً على الوجه أو مشياً على الرأس
يشهد لي عندها اليوم أن كنت أحنو عليها حُنوَّ المرضعات على الرضيع/ الفطيم، فأحملها من هنا وهناك إلى حيث تجري بي أقداري أو أقدارها. أحملها من فندق لآخر، ومن منزل عابر لمنزل آخر، أتوه بها أو تتوه بي في صالات المطارات، أتوسل لها ـ بالأجرة ـ عربات الحمّالين، أقتسم مع رسوم الشحن فتات ما بقي من رحلة وقفت بي على حافة الإفلاس، أشفع لها عند الوصول لدى رجل الجمارك ومراقبي الإعلام لعل وعسى، أستنجد ببعض أفراد العائلة لنقلها إلى غرفتي التي كانت هي مكتبتي قبل أن تضيق بي وبنفسها، أعِدُها بمكان لائق، أحْلُمُ لها بما أظنّه من أحلامها، أصافِحُها قبل أن أتصفّحها، ثم أضعها في صدر المجلس وحيثما كانت هي الصدر؛ كما كان يقول ملك النحاة قديما (النحوي/ أبو نزار، الحسن بن صافي كان يلقب نفسه بملك النحاة، وكان فخورا بنفسه، فإذا قالوا له: تعال إلى صدر المجلس، قال: أنا الصدر حيثما كنت).
إذن، ما أدعوها: مكتبتي، ليست مجرد مكتبة خاصة يمكن تقييمها أو بيعها أو استبدالها بناء على تصورات الآخرين/ غيري، ليست مجرد مجموعة من وَرَقٍ مُنضّد، ليست مجرد سَوادٍ في بياض يَسُرُّ الناظرين، بل هي حب/ عشق، أنا وهي زملاء عمل ورفاق درب، صحبة صادقة في الحل والسفر، وندامى سمر؛ تكاشف وإياهم غرائب الأسرار ودقائق الأخبار، إنهم شركاءُ أخْذ وعطاء وصدقِ إخاء، شركاء مساهمون في عقلي، وقلبي، وجسدي، وفي مال ناضح تسرّب من مسام رهق السنين الطوال.
هذه الكتب الورقية، التي لا أخفي انحيازي الجائر لها، هي الوجود المعرفي الملموس والمحبوب بالنسبة لي، هي معشوقاتي التي طالما لمستها بيدي، وتحسست تضاريس أجسادها بأطراف أصابعي حتى وعتها ذاكرة الحب بل واستوعبتها، هي حورياتي التي طالما سمعت أصواتها وميّزت بين نغماتها المتشابهة حتى لأعرف ما في صدور بعضها على بعض وإن أعلنت عن صادق الود، هي أزهاري التي تكونت ذائقتي العطرية على حدودها، فكلما شممت روائحها عرفت من أي طريق عبرت في اغترابها اللانهائي المفتوح على فضاء الخلود.
بعد كل هذا، بعد كل هذا الاستسلام الإيماني، هل يفيد أن يأتي الكتاب الإلكتروني ليقول لي بأنه قادر على أن يجعل من كل هذه الملحمة الأسطورية ـ التي أعيش خيالاتها كحقائق ـ خبرا عابرا، أو حديثا من أحاديث الغرام الساذج؟ هل يأتي الكتاب الإلكتروني مستعرضا كل مزاياه، معتدا بموقعه في سياق النفعية المعاصرة؛ ليقول: كل ما وفّرته لك هذه الكتب التي حفيت قدماك لتجمعها في ثلاثين عاما؛ أستطيع أن آتيك بها قبل أن تقوم من مقامك، بل وقبل أن يرتَدّ إليك طرفك، وبثمن بخس؛ مقارنة بما أنفقته على معشوقاتك التي لم تعد ـ بمعايير عصرنا ـ ذات جمال، أو حتى أحضرها لك بلا ثمن إذا ما كنت في بلاد العرب التي لا تعرف الحقوق الفكرية ولا تعترف بها؟
هل يُفيد الكتاب الإلكتروني أن يقول لي بكل يقين: انسَ كل ذلك العناء الذي يتخللك حنينا زائفا، انسَ تلك الرحالات المضنية إلى الشرق والغرب، انسَ مقاسمة الكتب لك لُقْمَة عيشك، وحمّل في جهازك/ الحاسوب أضعاف ما في مكتبتك، ثم احملها معك في رحلة القلق التي لا تستقر بك على حال، استفد من التقنيات المتجددة التي أتاحتها لك تطبيقات الكتاب الإلكتروني، ولا تترك نفسك أسير عادة نشأت عليها حينا من الدهر؛ ولا جدوى منها اليوم إلا ما تحس به من بقايا لذة يخلقها الحنين، وسيخنقها الزمن ـ حتما ـ بعد حين؟
أيها الكتاب الإلكتروني، لن أعدّد لك شيئا من مزايا وخصائص الكتاب الورقي، فأنا أعترف ـ طوعا وعن علم ـ بأن ما لديك من مزايا وخصائص تفوق كثيرا ما لدى الكتاب الورقي. ولهذا، فأنا وعلى عشقي للكتاب الورقي قد حمّلت منك أكثر من 5500 كتاب إلكتروني؛ لترافقني في مشارق الأرض ومغاربها.
أعترف أني قرأت مئات الكتب الإلكترونية، وأن كثيرا منها لم تكن لتتوفر لي في الوقت الذي أردتها فيها لو كانت ورقية، بل وأن كثيرا منها دفعتني مجانيتها للاطلاع عليها، ولولا ذلك لترددت كثيرا في اقتنائها. ما يعني أنها شكّلت، ولا زالت تشكّل، وستبقى تشكّل محورا مُهمّا في تكويني الثقافي/ الفكري الذي لم يعد الكتاب الورقي/ التقليدي قادرا على الوفاء بمتطلباته المشروطة بسياق الانفجار المعرفي الذي لا ينفك عن تقنيات وسائطه بحال.
أخيرا، وأيا كان حال القارئ معي؛ اتفاقا أو اختلافا في دعوى هذا المقال، فإني أقول ـ بلغة القلب؛ لا بلغة العقل: إذا كان أهمّ ما يميز الكتاب الإلكتروني توفير المال، وتقريب البعيد، والسماح بالممنوع، وأنه لا يُثقل السواعد والكواهل…إلخ المزايا، فإن في الخمر معنى ليس في العنب كما يقول أبو الطيب. أقصد أن ثمة أشياء لا تحسب قيمتها بعوائدها العملية المباشرة، إذ للروح فيها نصيب يصعب تقديره بثمن؛ حتى وإن كان الوفاء لها يعدّه “الخَليُّ” ضربا من الجنون.
الحرة