أقلام مختارة

حول ‘مراقبة إيران’ من العراق: الحاجة إلى إعادة المحاولة

حسن منيمنة

حسن منيمنة

ليس سرا أن الرئيس دونالد ترامب يرتجل في كلامه ويطلق منه ما يتجاوب مع الشريحة الشعبية التي انتخبته، وما ينسجم مع ميولها الانطوائية. بل يبدو جليا للمتتبع لمواقف دونالد ترامب، منذ بروزه في أوساط الأعمال والمجتمع في مدينة نيويورك في الثمانينيات، أنه يشارك هذه الشريحة قناعاتها بأن الولايات المتحدة مغبونة في علاقاتها، عرضة للاستغلال في صفقاتها، ومفرطة في سخائها. وإذا كان ثمة مؤامرة، فهي التي تستهدف ثروات الولايات المتحدة المادية والمعنوية، وهي المؤامرة التي يشترك بها، بالإضافة إلى الدول المستفيدة من عدم تفطن الولايات المتحدة لمصالحها، النخبة السياسية والفكرية في الولايات المتحدة نفسها، كلها أو جلها، إذ تربح بدورها من هذا الاستنزاف الممنهج لخيرات البلاد.

لا يخفى أن هذه الصيغة من المؤامرة هي نسخة طبق الأصل، ولكن مقلوبة رأسا على عقب، لتلك الشائعة في المحيط العربي، فهنا كما هنالك، المؤامرة تستهدف ثروات البلاد، وهنا كما هنالك الحكام والنخب عملاء للخارج المستفيد. وكما أن القناعة الابتدائية، دون الحاجة إلى الدليل، في الوسط العربي هي أن المؤامرة حق والتشكيك بها باطل مغرِض، فكذلك الحال لدى العديد من الشرائح الناخبة في الولايات المتحدة والتي رسا اختيارها على دونالد ترامب، لكونه من خارج الطبقة السياسية والنخبة الفكرية، لتصحيح الحال.

هذا جمهور يعتبر أن حقوقه مهدورة وأموال بلاده تستعمل في غير مقاصدها، ولا يرى كيف يستقيم بناء دول الآخرين فيما البنى التحتية لديه بحاجة إلى العناية، وكيف ينتظم تأمين الحماية والخدمات في الخارج فيما الداخل يعاني من الجريمة والعوز. فلا يريد هذا الجمهور، عند الحد الأقصى، أية تقدمة من بلاده لأية قضية، ولا أية مساهمة بأي فعل لا يعود عليه هو بالفائدة المباشرة، لا جشعا ولا طمعا ولا بخلا، بل انطلاقا من اعتقاد راسخ في وسطه بأن فعل الخير المزعوم هو أمر ظاهره الجود والكرم باطنه النهب والاستيلاء على ما هو من حقه.

فالمطلوب من ترامب، في الأوساط التي أوصلته إلى الرئاسة، والتي لا تزال تؤيده رغم توالي الطعون فيه من كل صوب، أن يبقى ملتزما بتغليبه المصلحة المباشرة والواضحة لبلاده، كما هي وجهة نظر الشائعة في هذه الأوساط، وأن يتخلى عن أي دور يقدّم للآخرين أي شيء بالمجّان.

ومنذ توليه الرئاسة، سعى ترامب إلى البقاء عند حسن ظن هذا الجمهور به. نصائح المساعدين ومعلومات الخبراء والمختصين ضمن طاقم عمله تشدد على مصلحة الولايات المتحدة البعيدة المدى في الاستقرار الذي تحققه مساهماتها في الخارج. وإذا كانت هذه الإضافات قد لطّفت من بعض خطواته، فإن عودته إلى مواقفه الشعبوية الأولى، مع التبديل المتتالي في فريق المقرّبين إليه، تبقى القاعدة.

الإعلام المعادي للولايات المتحدة يتلقف النبذات الغريبة الصادرة عن ترامب، كقوله أنه كان الأولى ببلاده أن تستولي على نفط العراق مقابل إسقاط نظام الطغيان فيه، فيبدو ترامب تجسيدا للصورة النمطية حول “الأميركي الجشع”، أو زعمه أن الحكومة الأميركية (السابقة) هي التي “أنشأت تنظيم الدولة”، مؤكدا على ما يبدو ما جنحت إليه أدبيات المؤامرة في محور “الممانعة” طوال الأعوام، أو حتى كلامه، في إطار ما يكرر اللجوء إليه من الإسقاط بحق أسلافه من الرؤساء، بأن “الولايات المتحدة لم تنتصر في حرب واحدة منذ الحرب العالمية الثانية”. فإذ بترامب اليوم يصبح من المرجعيات التي يستدعيها الخبراء والمعلقون في الأجهزة الإعلامية المعادية للولايات المتحدة.

وقد حظيت هذه الأجهزة يوم الأحد الماضي على مادة دسمة جديدة حين قال الرئيس الأميركي أنه يعتزم إبقاء قوات بلاده في العراق لغرض “مراقبة إيران”، بعد أن أعلن اعتزازه بأنه قد أنجز مهمة القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية”.

فوفق الإعلام المعادي، ترامب أظهر الحقيقة المستورة وكشف النقاب عن حقيقة تعامل واشنطن مع سائر الدول، ولا سيما منها دول المنطقة العربية. فلا اعتبار هنا للسيادة العراقية، ولا احترام للاتفاقيات المعقودة، ولا مراعاة لمشاعر العراقيين، والذين يرفضون أن تكون بلادهم ساحة للآخرين، بل سلوك استعماري جديد ينم عن غطرسة وفوقية.

وبالفعل، ما قاله الرئيس ترامب هو كلام مرفوض لا بد من التراجع عنه. وبالفعل، النظام السياسي في الولايات المتحدة رئاسي بقدر يقترب من الإطلاق على مستوى السلطة التنفيذية، إذ من واجب كافة مؤسسات هذه السلطة، ومنها القوات المسلحة، الامتثال لأوامر الرئيس، ضمن الضوابط الدستورية. غير أنه لا بد من تفكيك ما صدر عن ترامب واقعيا قبل الشروع باحتفالات كشف المستور.

للولايات المتحدة من العتاد والانتشار والقدرات ما يسمح لها بمراقبة كامل إيران باستفاضة دون أي اعتماد على وجودها في العراق. ثم أن طبيعة انتشار القوات الخاصة في العراق، والهادف إلى مؤازرة الأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية في مهامها بمواجهة تنظيم الدولة، ليس مناسبا لدور “مراقبة إيران”. كما أن الولايات المتحدة حكما وطبعا ملتزمة بالتفاهمات والاتفاقات مع الحكومة العراقية حول طبيعة نشاطها داخل العراق. واحترام الولايات المتحدة للمواثيق هو رصيد تجتهد للمحافظة عليه، تجنبا للتفريط بالاحتياجات المستقبلية.

والأهم أنه، وبغضّ النظر عن الضجيج المعادي للولايات المتحدة، والذي يقيم فيض الشتائم مقام الحجة والبرهان، فإن سجل الولايات المتحدة في العراق على مدى العقود الماضية يكشف عن سلوك يتناقض مع زعم المصلحة الفجّة.

ليس أن الولايات المتحدة خالية من دعاة المصلحة الفجّة، ولكن الغلبة لم تكن من نصيبهم في المراحل الماضية. هؤلاء أرادوا إسقاط النظام وتدمير البنية التحتية لمنع عودته، ثم ترك الساحة للأسرة الدولية لمعالجة المخلفات. أصحاب الرأي الذي رجح اعتبروا أن قيام عراق جديد مستقر من مصلحة الولايات المتحدة وأكثر انسجاما مع موقعها التاريخي والمعنوي.

ثمة من قد يعمد إلى المساجلة في هذا الصدد للقول بأنه وما كان الفارق ليكون، مستدعيا الفلوجة وأبو غريب، وما لحق العراق من دمار، وما أصاب أهله من كوارث. من شأن المسافة التاريخية أن تنظر في مسؤولية الولايات المتحدة، عن عمد أو دونه، عمّا حصل من الموت والخراب في العراق، مقابل مسؤولية العراقيين أنفسهم، ومسؤولية الآخرين، القريب منهم والبعيد، وما كان ليحدث لو لم يسقط النظام. الموضوع هنا هو وحسب هل أن الولايات المتحدة، في حسابات أصحاب القرار فيها، قد تصرّفت انطلاقا من مصلحتها المجردة، أم هل كان في الميزان اعتبارات أخرى، أخلاقية ومعنوية؟

لا خلاف في الولايات المتحدة على أن الجواب هو أن الاعتبارات المعنوية قد أطرت السلوك الأميركي. بل الخلاف هو بين من يرى بأن هذا التأطير، بما يحققه من استقرار، ينصب في مصلحة الولايات المتحدة على المدى المتوسط والبعيد، وإن تطلب بعض الاستثمار الآني، وبين من يعتبر أن مشاريع إعادة بناء الدول والمجتمعات هي حركات وهمية واهية أو حتى كاذبة، والأجدى الفراغ منها. والرأي الأخير جاء في صلب حملة دونالد ترامب الانتخابية.

وشبه القاعدة التي يمكن الركون إليها في هذا الصدد هو أن هذا الرأي الأخير، الداعي إلى الترك، يتراجع عند تقدم الاطلاع على التفاصيل، ليحل محله الرأي الأول، الداعي إلى الفعل. بعض العقائديين، مثل عضو مجلس الشيوخ راند بول، يصرّ على الترك مهما كانت العواقب، في حين أن غالبية من يوازن بين الحكمين، على أساس الاعتبارات لا الرأي المسبق، يميل إلى تأخير الترك، على أقل تقدير.

ما صدر عن ترامب من كلام حول “مراقبة إيران” من العراق قد يندرج في سياق بحثه عن “مصلحة فجّة”، توافق بين مواقفه الخطابية وآراء قاعدته الشعبية من جهة، وبين تبينه للوقائع التي تحبذ استمرار التعاون العسكري بين الولايات المتحدة والعراق، فيكون بالتالي ضمن الاستمرارية في سجلّه الخطابي وفي الخطط العسكرية القائمة على حد سواء.

غير أن ما رسا عليه لم يكن موفقا، لا من حيث قابليته للتصديق، ولا من حيث عواقبه غير الجلية، من منظوره. فالاعتراض داخل الولايات المتحدة اتخذ طابعا تقنيا، يفنّد الجدوى المعلنة. أما في بغداد والعراق وسائر المنطقة، فالأحوال، حسب ما سبقها من مواقف مؤيدة لدور الولايات المتحدة أو معادية له، تراوحت بين الإحراج والشماتة.

كلام ترامب جاء مرتجلا، مفتقدا للمضمون الصلب. وهو لم يحقق الغرض منه، بل أدّى إلى نتائج عكسية. المطلوب من الرئيس ومن طاقمه “توضيح” القول حول “مراقبة إيران” من العراق، بما يصل إلى حد تفريغه من محتواه ونقله إلى المجاز، والاستعاضة عن المراقبة بموازنة التأثير مثلا.

من حق المواطن في الولايات المتحدة أن يتساءل عن جدوى انخراط بلاده في المشاريع الخارجية، ومن حق السياسيين في الولايات المتحدة أن يعتبروا بأنه لا جدوى من هكذا انخراط.

ومن حق الرئيس ترامب تحديدا أن يثبت على قناعته بأن التدخل في العراق كان خطأ جسيما، كما أن له أن يحاول استنقاذ بعض ما يفيد بلاده، من وجهة نظره، من هذا الخطأ. ولكنه لم يكن موفقا البتة في تعبيره عن هذه المحاولة الأحد الماضي. فالمصلحة الوطنية للولايات المتحدة تلتقي هنا مع حق العراق، دولة ومجتمعا، أن يشطب البيت الأبيض ما كان ويعيد المحاولة.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق