كوليت بهنا
عام 1971 زار الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الامارات ومؤسسها الراحل العاصمة الليبية طرابلس بغرض إجراء عملية جراحية في مستشفى “أندير”، ومما يروى أن الشعب الليبي احتفى به حفاوة كبرى، وأن الشيخ زايد أعجب بالأسلوب العماري الإيطالي للعاصمة طرابلس ونظافة شوارعها فأعرب للقذافي عن أمنيته في أن تصبح أبوظبي يوما مثل طرابلس. كما نقل عنه أيضا إعجابه بمدينة بيروت في الستينيات وحلمه أن تصبح أبوظبي مثلها.
اليوم، وبعد مرور ما يقارب خمسة عقود من الزمن، لا يختلف اثنان على أن أبوظبي ومعها مدينة دبي سبقتا معماريا وجماليا وماليا كلا من طرابلس الغرب وبيروت معا، ولا يختلف اثنان على احترام الشيخ زايد لتاريخه السياسي الناصع وحكمته في إدارة شؤون بلاده.
أبوظبي، التي كانت نجمة الإعلام العربي والدولي الأنيقة والفخمة مطلع الأسبوع الفائت، باستقبالها للزيارة التاريخية لغبطة الحبر الأعظم البابا فرانسيس في أول زيارة من نوعها لبابا الفاتيكان إلى منطقة الخليج العربي ولقائه مع الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، في إطار مؤتمر لحوار الأديان بعد أن أطلقت الإمارات عام 2019 عاما للتسامح والأخوة الإنسانية الذي يجمع بين مختلف الديانات والثقافات والعقائد والطوائف.
خرج هذا اللقاء بوثيقة الأخوّة الإنسانية، وهي وثيقة طويلة وثرية بمحتواها؛ وسيكتشف المدقق في تفاصيلها المقدار الكبير للجهد الذي بذل لإخراجها بهذه الدقة والحرص الشديد على عناصر التوازن والعدل وسعة الأفق التي تتضمنها بنودها، والأهم هو النوايا النبيلة والفاضلة التي انبثقت عن إرادة الأطراف التي قررتها وسعت لإخراجها إلى النور.
ولكن.. وبعيدا عن ظلال الروحانيات الدينية النبيلة، التي ترى العالم بعين طوباوية وتتمنى أن تصلحه وفق رؤية فاضلة تختلف عما يجري ـ وقد يصعب تغييره ـ على مستوى الساسة الكبار وكواليس السياسات الدولية والمالية وطبيعة البشر وما تضمره النفوس وما يجري حقيقة على الأرض، لا بد من بعض الملاحظات والتساؤلات فيما يتعلق بهذه الزيارة التاريخية لرموز الأديان الأفاضل وما انبثق عنها وعن عام التسامح ومعناه.
بداية، وفي نظرة عامة، لوحظ أن تغطية الإعلام العربي لهذه الزيارة، كحدث تاريخي بارز، بدت ضعيفة للغاية مقارنة بغيرها من زيارات لبابا الفاتيكان، مما أوحى وكأن المحطات العربية، ومعظمها تابعة لدول عربية إسلامية لم تمنح الاهتمام المنشود لزيارة أكبر رمز ديني لدى مسيحيي العالم وما رافق زيارته من قداس وصلوات وشعائر مسيحية، وبدت وكأنها تراعي بحذر شديد حساسية مجتمعاتها الإسلامية، مما يشكك في إمكانية تحقيق التسامح المطلوب في القريب العاجل.
مع التنويه إلى أن بعض المحطات القليلة التي غطت الحدث إعلاميا، منحت تركيزها الأكبر للضيوف المشاركين في الفعالية الروحية، أو عبر ضيوف الهواء من المحللين أو رجالات الدين ورؤساء المؤسسات والمراكز الدينية في لبنان وفلسطين ومصر، والذين استفاض المسلمون بينهم، بالحديث عن عظمة وتسامح الدين الإسلامي الذي أظهرته أبوظبي باستضافة هذا اللقاء التاريخي، فبدا المعنى وكأنه” منّة” من المسلمين على الآخرين، مع التنويه إلى أن بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر كانا الأكثر رحابة صدر، وحرصا في كلمتيهما على الانتباه من إثارة أية حساسية معنوية أو تعالي.
كما لوحظ غياب قناة “الجزيرة”، التي تحوز على أعلى نسبة مشاهدة بين وسائل الإعلام الناطقة بالعربية، وباقي القنوات القطرية عن حدث كهذا، وإن كانت الأسباب معروفة، إلا أن المرء كان يأمل ـ بحيادية تامة بين الجانبين، في ظل الأجواء الروحانية والتسامح المنشود ووثيقة الأخوة الإنسانية التي أطلقت، وأن تخطو أبوظبي خطوة حسن نوايا تاريخية اتجاه الدوحة مما يخفف الاحتقان المتبادل ويعيد اللحمة لدول مجلس التعاون الخليجي الذي ساهم في تأسيسه الشيخ زايد آل نهيان بنفسه واستضاف أولى قممه في أبوظبي عام 1981.
إطلاق أبوظبي لعام التسامح، يعني أن يتوقع المرء أن تسعى دولة الإمارات لتنقية سجلها من النقاط السوداء في مجالات انتهاك حقوق الإنسان، عبر عفو عام عن يطال سجناء الرأي والمعتقلين لأسباب مجهولة وإطلاق الحريات السياسية والمدنية؛ إضافة إلى أولوية استصدار قرارات عادلة تتعلق بالعمالة الوافدة من بقاع الأرض، هذه العمالة التي تشتكي وتئن باستمرار من سوء نظام الكفالة وغلاء المعيشة ورعب الترحيل القسري وغيرها ـ وفي هذا الأمر تستوي كل دول الخليج وليس الإمارات بمفردها.
في المحصلة، هذه العمالة هي من أكبر التنوعات البشرية بأعراقها وإثنياتها، وقد زحف أفرادها إلى هذه الدولة النفطية الثرية لبناء أحلامهم، لكنهم في حقيقة الأمر، بنوا حلم دولة الإمارات الكبير في النهضة، ولأجل الحفاظ على هذه النهضة، لابد أن تترجم بينهم وثيقة الأخوة الإنسانية بداية، لأن الأقربون أولى بالمعروف.
في ظل أجواء التسامح المنشود، لا بد من التساؤل عما إذا كانت أبوظبي ستقدم على تقديم الاعتذار للمدنيين اليمنيين والليبيين والسوريين التي شاركت طائراتها في قتلهم عن عمد أو دون عمد، أيا تكن أهداف التحالفات الدولية التي شاركت بها الإمارات أو مولتها. ولعل الجرح اليمني، الأكثر نزفا، يكون له أولوية المداواة انطلاقا من رؤية الشيخ زايد الذي لعب في اليمن الجنوبي وسيط سلام 1980خلال نزاعاته الحدودية مع سلطنة عمان، ولعب دور الوسيط في الحرب الأهلي اليمنية 1994.
لا تبنى الدول الحديثة بالنهضة العمرانية والتكنولوجية والاقتصادية فحسب، بل تبنى أولا بالحقوق والدساتير العادلة والحريات، ولتكن رسائل السلام والتسامح اللتين رفعهما بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر من أبوظبي مفتاحا لإتمام ازدهارها الحضاري الشامل وازدهار من يحتاجها أسوة برؤية صانع الاتحاد الاماراتي الذي أحب الجميع.
إنه عام للتسامح؛ فلننتظر ترجمته من الأرض التي أطلقته أولا.
الحرة