د. عماد بوظو
بعد أن نجح المصريون باكتشاف التحنيط الذي ساعدهم بالاحتفاظ بجثامين موتاهم وكأنها حية رغم أنها لا تتفاعل مع العوامل والمؤثرات الخارجية، يبدو أنهم نجحوا باستخدام هذه العملية في الحياة السياسية؛ فقبل أكثر من تسعين عاما تم الإعلان في مصر عن تأسيس حزب سياسي إسلامي أطلق عليه مؤسسه حسن البنّا اسم جماعة الإخوان المسلمين.
تضمّنت مبادئ الجماعة “الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”، كما ذكر حسن البنا في إحدى رسائله “أن الإسلام عقيدة وعبادة، وطن وجنسية، روحانية وعمل، ومصحف وسيف”. ويعتبر هذا الحزب نفسه دعوة سلفية للعودة للأصول الصافية للإسلام في القرآن والسنة النبوية، وسرعان ما انتشر هذا التنظيم في عشرات الدول عبر العالم ليصبح أكبر حزب إسلامي.
منذ تأسيس حزب الإخوان المسلمين عام 1928 حتى اليوم حدثت تغيرات هائلة في العالم فاقت في أهميتها كل ما عرفته البشرية طوال تاريخها؛ فقد ولدت الأحزاب النازية والفاشية وسيطرت على مناطق واسعة في العالم إلى أن تم القضاء عليها وتجريم أفكارها التي تقوم على فكرة تفوق عرق أو شعب على آخر. وشهدت نفس الفترة ولادة الشيوعية وسيطرتها على نصف الكرة الأرضية ثم موتها نتيجة فشل برامجها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وأصبحت كثير من الدول متعددة القوميات والأديان من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا إلى الصين والهند، وانتقلت زعامة العالم من القارة الأوروبية إلى القارة الأمريكية، وتحولت الصين من شعب مدمن على الأفيون إلى قوة كبرى، ونهضت اليابان من الدمار ليصبح شعبها من أكثر شعوب العالم رفاهية، أما الهند فانتقلت من مرحلة المجاعة إلى تصدير العقول والتكنولوجيا العالية.
التطور العلمي والمكتشفات التي حدثت خلال التسعين سنة الماضية فاقت كل ما حدث قبلها، من السيارات والطائرات إلى نزول الإنسان على سطح القمر وزيارة مراكبه للمريخ. أصبحت الكرة الأرضية عبر وسائل الاتصال والمواصلات قرية صغيرة تنتقل فيها المعلومات والأخبار بأجزاء من الثانية، وتمّت صناعة الأنسان الآلي لينافس البشر في سوق عمل، وأصبحت المعرفة متاحة للجميع عبر شبكة الإنترنت. العالم اليوم يختلف جوهريا عن عالم بدايات القرن الماضي.
وفي حين تطورت القوى السياسية في أغلب دول العالم لتواكب المتغيرات التاريخية لم تنجح كل هذه الأحداث في ترك أثر يذكر على فكر وسياسات جماعة الإخوان المسلمين، فشعار الحزب عند تأسيسه وهو عبارة عن سيفين متقاطعين وبين قبضتيهما عبارة “وأعدّوا” المأخوذة من آية في سورة الأنفال “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”، التي نزلت بعد غزوة بدر وكان سبب نزولها يتعلق بطريقة تقسيم الغنائم بين المسلمين في ظروف الحرب مع قريش، استخدمها حزب الإخوان المسلمين مع السيفين للدلالة على أن طبيعة العلاقة مع الآخر المختلف عن الجماعة هي: الخصومة والصراع.
ينقسم العالم حسب رأيهم إلى مجتمع الإيمان الصحيح وهو حزبهم، ومجتمع الباطل وهو بقية العالم الذي يتوزع بين كفار ومشركين ومنافقين. وقد شرح بعضهم أن وجود سيفين في هذا الشعار هو للدلالة على أن أحدهما لمحاربة أعداء الخارج والثاني مخصص لأعداء الداخل. أما كلمة ترهبون في نفس الآية من سورة الأنفال فقد عبّر المرشد الأسبق للجماعة مصطفى مشهور عن فهم الحزب لها: “إن لفظ الإرهاب هو من ألفاظ القرآن الكريم وهو عقيدة إسلامية خالصة ليس هو فقط، ولكن أيضا لفظ الرعب فنحن لا ننتصر إلا بالإرهاب والرعب ويجب أن لا ننهزم نفسيا من اتهامنا بالإرهاب نعم نحن إرهابيون”.
لم يجد حزب الإخوان المسلمين بعد كل ما حدث خلال السنوات التسعين الماضية سببا يدعوا لتغيير شعاره هذا، وكذلك لم يغيّر الحزب شيئا من منطلقاته مثل الجهاد ضد الكفار والمشركين ومن في حكمهم حتى تتحقق أسعد الأماني وهي الاستشهاد، وما زال يرى أن شكل العلاقة مع الآخرين تتراوح بين المواجهة في “دار الحرب” أو المهادنة إلى أن يُمكّن الله المسلمين من أعدائهم، وما زال يعتبر الإسلام “وطن وجنسية”؛ بينما في عالم اليوم يعتبر التعدد والتنوع مصدر غنى ومن مقومات الحضارة الحديثة وأحد أسباب تطورها، وتعتبر اليوم الدعوة لوطن تهيمن عليه فئة واحدة غير واقعية وغير عادلة، وأصبح كل من ينظر للمختلفين عنه كفئة ضالّة ومعادية بعيدا عن هذا العصر.
حتى مؤسس الجماعة حسن البنا، والذي تولى قيادتها لواحد وعشرين عاما، لم يتعرض لانتقاد جوهري من داخل أعضاء حزبه ولم تجر مراجعة لمبادئه العشرون التي تتضمن بنودا تجاوزها الزمن، مثل تلك التي تتحدث عن “التمائم والرقى والودع والرمل”، أو البدع وزيارة القبور، أو كيفية الدعاء والتوسل، أو دور الإمام الحاكم الذي هو خليفة النبي وغيرها، بل ينظرون إليه وإلى آرائه بنوع من القداسة وكأنه من الصحابة أو التابعين، في حين أن كل معاصريه من السياسيين الذين سار وراءهم عشرات ملايين البشر من لينين وستالين وهتلر وموسوليني وماو تسي تونغ تعرضوا للنقد وإعادة النظر بأفكارهم وسياساتهم.
وإذا كان بالإمكان تفهّم عدم رغبة الجماعة بانتقاد الشيخ المؤسس، فمن الصعب تبرير عدم قيامهم بمراجعة نقدية حقيقية للنكسات التي أصابت حزب الإخوان المسلمين في السنوات الأخيرة بعد التجارب الفاشلة لحكم هذا الحزب في مصر والسودان وقطاع غزة عندما اصطدمت شعاراته العامة مثل “الإسلام هو الحل” أو “العمل على تطبيق الشريعة” أو “القرآن دستورنا” بواقع أكثر تعقيدا، ليصبح واضحا أن الإخوان المسلمين لا يملكون برنامجا حقيقيا للتعامل مع عالم اليوم، ولم ينتج عن حكمهم سوى البؤس، ورغم ذلك يصرّون على التمسّك بالسلطة.
ولكن كيف يمكن مطالبة مثل هذه المجموعة بالمراجعة الفكرية وهي متحجّرة حتى بالمظهر الخارجي والقشور؟ إذ ما زال أعضاء هذا الحزب يرخون ذقونهم ويضطر أصحاب المناصب الرسمية والمغتربون منهم إلى تشذيبها ليكون شكلهم مقبولا بينما بقية إخوتهم في الحزب يتركونها طويلة على ما يعتقدون أنه سنّة نبوية، بل يروّجون بدون أي سند علمي إلى أن الذقن تزيد الرغبة الجنسية وتقي من بعض الأمراض كالربو! أما في ملابسهم فاعتمادا على مبدأ أن الضرورات تبيح المحظورات، فيلجأ أصحاب الأعمال الرسمية من الإخوان لارتداء الثياب العصرية في أماكن العمل ولكن بعد خروجهم سرعان ما يخلعونها ويرتدون الجلباب الإسلامي.
هذا التقيّد الحرفي والسطحي يعطي فكرة عن درجة التحجر والغربة عن عالم اليوم التي يعاني منها، ونتيجة لذلك، ولعجزهم عن إجراء مراجعة جدية حقيقية لفكر الجماعة وسياساتها لمواكبة العصر، أصبحت جماعة الإخوان المسلمين معزولة تعيش بانتظار حدوث تصرّف غبي من إحدى الحكومات أو جريمة كراهية أو موقف عنصري لمهووس ضد أحد المسلمين في مكان ما من العالم لاستغلالها في إعطاء جرعة إنعاش لثقافة الكراهية لأنها تساعدها في التأكيد على انقسام العالم إلى معسكرين وللإيحاء بأن الحزب ما زال على قيد الحياة ويقوم بالدفاع عن المسلمين.
بالإضافة إلى فشل حزب الإخوان المسلمين بالتطور والتعامل مع العصر، أضيف خلال الفترة الأخيرة خطيئة جديدة لهذه الجماعة وهي غياب الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية في مواقفها من بعض القضايا الإقليمية والدولية، مثل وقوفها ضد الحراك الشعبي المعارض لنظام عمر البشير الذي حكم السودان لثلاثين عاما جرّ خلالها على بلده كوارث لا يمكن حصرها، أو وقوف حركة حماس وكثير من قيادات التنظيم العالمي للإخوان المسلمين مع إيران والنظام السوري رغم كل ما ارتكبوه من جرائم، بالإضافة إلى موقف الجماعة الأخير المعادي للثورة في فنزويلا وتأييد ديكتاتورية فاسدة أفقرت الشعب؛ ونتيجة معرفتهم بأنه لا يمكن الدفاع عن مثل هذه المواقف فإنهم يلجؤون لاستخدام رأس الخطايا أخلاقيا ودينيا وهو الكذب والمراوغة للتمويه عليها.
رغم كل هذه الوقائع من الصعب تلمّس أي إشارة تدل على أن الإخوان المسلمين قد أدركوا إلى أين وصل حالهم؛ ربما لأنهم يعيشون في قوقعة مغلقة لا يتواصلون فيها سوى مع أعضاء جماعتهم الذين يتشاركون في نفس القناعة بأن كل ما حدث ويحدث ليس إلا مؤامرة عالمية على الإسلام الذي لا يمثله سواهم.
الحرة