خيرالله خيرالله
ليس مؤتمر وارسو الذي دعت إليه الولايات المتحدة وبولندا حدثا عاديا. إنّه مساهمة في عزل إيران أكثر وتأكيد وجود نيّة لحملها على تغيير سلوكها. لعلّ أهمّ ما في هذا المؤتمر الذي شاركت فيه ما يزيد على ستين دولة أنه سيسمح مرّة أخرى بمعرفة ما إذا كانت إدارة دونالد ترامب جدّية فعلا في الذهاب إلى النهاية في المواجهة مع النظام الإيراني… أم أن كلّ ما في الأمر خطبا نارية لا ترجمة لها على أرض الواقع، على الرغم من تمزيق الرئيس دونالد ترامب الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني.
يمكن اعتبار مؤتمر وارسو، الذي تخللته دعوة موجهة إلى دول أوروبا من نائب الرئيس الأميركي مايك بنس كي تحذو حذو الولايات المتحدة بالنسبة إلى الملف النووي الإيراني، حلقة جديدة تضاف إلى سلسلة طويلة من المواقف الأميركية. بدأت هذه المواقف بخطاب لترامب ألقاه بعيد دخوله البيت الأبيض، قبل ما يزيد على عامين، حدّد فيه بوضوح ليس بعده وضوح المآخذ الأميركية على السلوك الإيراني.
بدأ الرئيس الأميركي بسرد للأحداث التي ترافقت مع قيام “الجمهورية الإسلامية” في إيران مباشرة بعد سقوط نظام الشاه في شباط – فبراير من العام 1979. لم يترك أي حدث كبير يعتبره “إرهابا” إلاّ وأتى على ذكره. توقف عند احتجاز الدبلوماسيين الأميركيين في طهران 444 يوما في تشرين الثاني – نوفمبر 1979.
لم يفته الدور الإيراني في نسف السفارة الأميركية في بيروت في نيسان – أبريل 1983 ثمّ مقر المارينز قرب مطار العاصمة اللبنانية في تشرين الأوّل – أكتوبر من السنة نفسها ولا خطف مواطنين أميركيين في لبنان في منتصف ثمانينات القرن الماضي.
كشف ترامب أنّ إدارته تعرف إيران بدقّة شديدة مؤكّدا أنّها ستكون مختلفة عن الإدارات السابقة. لعلّ أهم ما في كلّ خطب الرئيس الأميركي وتصريحاته هو تلك الحملة على سلوك إدارة باراك أوباما التي اختزلت كل أزمات الشرق الأوسط في الملفّ النووي الإيراني.
رفضت تلك الإدارة بذل أي جهد يسمح لها باستيعاب أن المشكلة مع إيران ليست في الملفّ النووي فقط. المشكلة أوسع من ذلك بكثير. هذه المشكلة هي مع المشروع التوسّعي الإيراني الذي يستثمر في الغرائز المذهبية من أجل تدمير المجتمعات العربية وجعلها تحت سطوة الميليشيات التابعة لـ”الحرس الثوري”. بهذه الطريقة، استُهدف العراق واستُهدفت سوريا ولبنان واستُهدف اليمن الذي باتت عاصمته رهينة لدى “أنصارالله”.
اتسم مؤتمر وارسو بلهجة حازمة. رأى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في افتتاح المؤتمر أن “إيران وحزب الله وتفشي الإرهاب أخطار تهدّد الشرق الأوسط”. أعرب عن رغبة واشنطن في فرض مزيد من العقوبات على النظام الإيراني لوقف “عدوان” الرئيس الإيراني حسن روحاني وقائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الجنرال قاسم سليماني على الشرق الأوسط.
هناك باختصار تأكيد آخر لوجود توجه أميركي جديد وإلى تسمية الأشياء بأسمائها والتعاطي مع المسؤولين الإيرانيين بطريقة مختلفة أكثر هجومية من الماضي.
لم يكن وزير الخارجية البولندي أقلّ وضوحا من بومبيو في مؤتمر وارسو، المخصص للبحث في الوضع في الشرق الأوسط، وبرنامج إيران النووي والحد من انتشار أسلحة الدمار.
أبدى ياتسيك تشابوتوفيتش، قلقه حيال برنامج إيران النووي. وقال “بلادنا معنية باتخاذ إجراءات تعزز السلام” في الشرق الأوسط. وأضاف “الوضع في الشرق الأوسط يتطلب منا اهتماما خاصا”. زايد عليه بومبيو بقوله “إن إيران تشكل أخطر تهديد في الشرق الأوسط. لا يستطيع العالم تحقيق السلام والأمن في الشرق الأوسط من دون مواجهة إيران.”
بعيدا عن التصعيد الكلامي، كان لا بدّ من ملاحظة أن ثمّة تغييرا في الموقف العربي عموما من إسرائيل. جلس وزير الخارجية اليمني بين وزير الخارجية الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي كان لديه لقاء مع الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في سلطنة عُمان يوسف بن علوي. تصرّف بن علوي بشكل لائق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي جاء يشكر الوزير العماني على الدعوة التي وجّهها إليه السلطان قابوس العام الماضي لزيارة مسقط. رأى في زيارته لمسقط “تحوّلا كبيرا” على الصعيد الإقليمي.
بدا واضحا أن هناك أجواء جديدة في المنطقة خلقتها زيارة نتانياهو لسلطنة عُمان التي ترتبط بعلاقات خاصة ومميّزة مع إيران، بغض النظر عن طبيعة النظام فيها. لا فارق في مسقط بين الشاه والخميني أو بين الشاه والذين خلفوا الخميني. لم يكن التصرّف العُماني، الذي يشير إلى وجود جسر بين إيران وإسرائيل، سوى جانب من الصورة التي تغيّرت في المنطقة بعدما اكتشف معظم العرب مدى خطورة إيران…
ما لا بدّ من ملاحظته أيضا هو ذلك الانقسام الأوروبي تجاه إيران. لا وجود لموقف أوروبي موحّد من “الجمهورية الإسلامية”. بولندا، على سبيل المثال، متشدّدة. تبدو أكثر تشدّدا من الولايات المتحدة في حين تعتمد دولة مثل فرنسا موقفا حائرا. يقوم هذا الموقف على رفض تطوير إيران للصواريخ الباليستية والتمسك في الوقت ذاته بالاتفاق في شأن ملفّها النووي.
هناك ما يمكن وصفه بضمور الدور للأوروبي على الصعيد العالمي. فقد الاتحاد الأوروبي الكثير من وزنه. بريطانيا غارقة في أزمتها الداخلية التي تسبب بها الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) وفرنسا تعاني من اضطرابات اجتماعية يصعب أن تخرج منها قريبا. أمّا ألمانيا، فهي في مرحلة ترقّب لعهد ما بعد المستشارة أنجيلا ميركل.
فقدت أوروبا الكثير من ثقلها في وقت تبيّن أن الصين ليست على استعداد للذهاب بعيدا في أي مواجهة مع الولايات المتحدة، خصوصا بعدما تبيّن أن اقتصادها لا يتحمّل مثل هذه المواجهة على الرغم من حجمه الكبير.
تبقى روسيا التي كشفتها القمة الثلاثية في سوتشي بين الرئيس فلاديمير بوتين وحسن روحاني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. لا تستطيع روسيا إيجاد تفاهم بينها وبين تركيا في شأن شمال سوريا، فيما لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية في تأمين غطاء للوجود الإيراني في سوريا.
عين روسيا على صفقة تريد عقدها مع أميركا في سوريا. ثمّة من يعتبر أن هذه الصفقة تمّت وأنّ الانسحاب العسكري الأميركي من شرق الفرات جزء من هذه الصفقة. إضافة إلى ذلك، ظهر بوضوح أنّ روسيا لا يمكنها إلاّ أن تأخذ في الاعتبار مصالح إسرائيل وأن العلاقة الروسية – الإسرائيلية في غاية الأهمّية بالنسبة إلى المقيم في الكرملين.
يعكس مؤتمر وارسو التغيّرات التي يشهدها العالم والشرق الأوسط والتوازنات الجديدة فيهما. عاجلا أم آجلا سيكون هناك جواب عن السؤال الذي لا يزال مطروحا منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. هل أميركا جدّية في وضع حدّ للخطر الإيراني وهل من ترجمة للكلام الناري الذي يصدر عن كبار المسؤولين في الإدارة التي تريد أن تكون مختلفة عن إدارة باراك أوباما؟
العرب اللندنية