أقلام مختارة

‘حي الكرنتينا’ بين الحقائق والافتراءات

منصور الحاج

منصور الحاج

عزيزي القارئ، إن لم تكن قد زرت حي “الكرنتينا” (أو الكرنتينة) أو التقيت بأحد ساكنيه وإن لم تقرأ أو تشاهد تقريرا مصورا عنه، افتح محرك البحث المفضل لديك وأكتب عبارة “حي الكرنتينا” ثم ألق نظرة على النتائج التي تظهر أمامك. ستلاحظ في غضون دقائق أن الحي الواقع في أقصى جنوب مدينة جدة الساحلية في السعودية يحظى بسمعة سيئة ويجمع في شوارعه وأزقته ـ بحسب وسائل الإعلام السعودية ـ كل الموبقات والخبائث والرذائل ويعيش فيه أشرار الخلق.

ستقرأ أوصافا من قبيل أن الحي الذي اكتسب اسمه المأخوذ من الكلمة الإنكليزية “Quarantine” بسبب قربة من مقر الحجر الصحي، “منطقة خارج السيطرة”، “وفي مقدمة الأحياء المرعبة”، و”يعج بالمخالفات الأمنية والعمالية والبلدية وأوكار الدعارة” وغيرها من الأوصاف المسيئة للحي وسكانه.

وللأمانة أقول ليس كل ما يكتب أو يقال عن الحي، الذي نشأت فيه وأحفظ طرقاته وأزقته وأعرف غالبية سكانه، هو محض افتراء ولا يمت إلى الواقع بصلة، لكنني أقول أيضا إن التقارير الصحافية تعكس حقائق منقوصة وتقدم صورة مشوهة للحي وسكانه عبر تصوريهم وكأنهم كائنات شيطانية قادمة من كوكب الشر.

لست أسعى من خلال هذا المقال إلى الدفاع عن الكرنتينا وتفنيد التهم والادعاءات والمزاعم، إنما أهدف إلى تقديم حقائق يجهلها كثيرون وإلى التعريف بحقيقة الإنسان “الكرنتيناوي” الحالم والطامح والبسيط وبواقعه وطموحاته وأحلامه وما طاله من ظلم وتهميش وتحليل الأسباب التي أدت إلى تدهور الأوضاع في الحي وسقوط العديد من أبنائه في براثن العنف وعالم الجريمة.

 

إن حبي للكرنتينا حب فطري غرائزي كحب الأطفال لآبائهم والطيور لأعشاشها، حب شخصي بعيد كل البعد عن الموضوعية أستمده من معالم الحي البسيطة كساحة لعب كرة القدم التي نطلق عليها اسم “البرحة” “والسوق الجديد” و”دكان عبد الرحمن” و”حارة الفحم” و”المكسورة” و”النخلتين” والمدرسة الفرنسية ومسجد الشيخ سعد الفران وسوبر ماركت المليباري وحارة الشهارية و”حوش الموية” و”الزحليطة” والذكريات التي تربطني بالمنازل والجدران والشوارع والمناسبات والأشخاص الذين التقيت بهم وتعلمت على أيديهم منهم معنى الحب والصداقة وقضيت معهم أجمل الأوقات.

أتذكر من طفولتي ترددي اليومي على دكان المرحوم العم داود الذي كان يكرمني بريالات وحلويات، ومروري عند الظهيرة على محل المرحوم العم عبيد بائع السمك المشوي للحصول على سمكتي، وتكرم المرحوم العم حسن صاحب المغسلة بغسل وكي ثيابي المخصصة للمدرسة بدون مقابل.

ومن المواقف المضحكة والمحرجة التي لا أنساها، يوم منعني المرحوم العم عامر صاحب اللحية المحناة مدرس القرآن في مسجد الشيخ سعد الفران من الذهاب إلى دورة المياه لقضاء حاجتي فما كان مني إلا أن لبيت نداء الطبيعة في داخل المسجد فانهال عليّ ضربا بخيزرانته الطويلة وطردني من المسجد شر طردة.

سكان “الكرنتينا” من أعراق وجنسيات وخلفيات شتى من اليمن وتشاد وأريتريا ونيجيريا والنيجر والكاميرون والسودان والهند وبنغلاديش وباكستان وجيبوتي والصومال يعيشون في تآلف وانسجام ويشاركون بعضهم بعضا في الأفراح والأتراح يتبادلون القصص والطرائف ويناقشون قضاياهم المزمنة كالتعليم والصحة وسبل العيش الكريم ومستقبل الأجيال القادمة كلما اجتمعوا في المجالس والمقاهي والديوانيات.

ومما يجهله كثيرون عن الكرنتينا هو أن آباءنا كانوا يتمنون مستقبلا أفضل لنا ولذلك قرروا بناء مدرسة لأبناء وبنات الحي والأحياء المجاورة أطلق عليها اسم “المدرسة الأهلية التشادية” تعلمنا فيها اللغة الفرنسية لكونها اللغة الأساسية في تشاد إلى جانب القراءة والكتابة والحساب والعلوم وحفظنا الأغاني الوطنية التشادية وتغنينا بالوطن وخيراته وثرواته.

تعلم أبناء الحي في المدرسة لكن المسيرة التعليمية للغالبية توقفت عند المرحلة المتوسطة التي كانت أقصى حد للدراسة في المدرسة بسبب رفض السلطات السعودية استيعابنا في المدارس الحكومية نسبة لكوننا لا نحمل جنسية البلاد أو لكوننا لا نقيم فيها بصورة قانونية.

لم تفكر السلطات في استيعاب أبناء الكرنتينا في معاهد التدريب المهني أو العديد من الوظائف والمهن المتوفرة في المنطقة الصناعية المجاورة للحي وبدلا من ذلك قامت باستقدام العمال من خارج البلاد، وتركت أبناء الحي يقررون مصيرهم بأنفسهم.

وحين دفعت الظروف بعض أبناء الحي إلى براثن الجريمة والانحراف، سلطت الدولة عليهم وسائل إعلامهما لتطلق على الحي وأبنائه أبشع الأوصاف.

ورغم الفقر وقلة الحيلة والظروف المعيشية الصعبة للعديد من الأسر، تغلب كثير من أبناء الكرنتينا على كل المعوقات واستطاعوا بجهود ذاتية تطوير أنفسهم بتعلم اللغات وعلوم الكمبيوتر وسافر الكثيرون إلى الخارج لمواصلة الدراسة كما هاجر آخرون إلى دول أوروبا فيما أبدع من بقوا في المجال الرياضي كلعبة كرة القدم واحتكرت فرق الحي بطولات الأحياء لفترة طويلة.

نساء الكرنتينا لسن بغايا أو فاجرات كما يصورهم الإعلام السعودي وإنما عاملات مجتهدات لهن حضور مميز في المجمتع “الكرنتيناوي” ويعلن أسرا ويحرصن على توفير حياة كريمة لأبنائهن وبنظرة سريعة إلى سوق الكرنتينا نلاحظ الحضور الكبير لبائعات الطعام والبهارات والعطور. أما الشابات فيعملن في قطاعات مختلفة كالمستشفيات وقصور الأميرات وقاعات الأفراح لمساعدة أسرهن على توفير متطلبات المعيشة اليومية.

إن الكرنتينا ليست بؤرة رذيلة وفساد كما يتم تصويرها في الإعلام، فسكان الحي بشر كغيرهم من سكان الأحياء الأخرى فشلت الدولة في توفير أبسط مقومات الحياة لهم ودفعت بعضهم الظروف إلى الانحراف.

لا أحاول تبرير الانحراف بقدر حرصي على توضيح أن بمقدور الدولة احتواء أبناء الحي الذين يكنون كل الحب للبلاد التي ولدوا على أرضها ونشأوا فيها ولا يعرفون بلدا سواها بقليل من الرعاية والاهتمام، فهم كغيرهم من البشر يملكون كل مقومات النجاح والتطور والإبداع.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق