فارس خشّان
ـ 1 ـ
يعلن بشّار الأسد، رئيس النظام السوري، ومن دون أن يرف له جفن، أنه يخوض حربا ضد مواقع التواصل الاجتماعي.
عندما علمتُ بأمر كلامه هذا، حسبت أن في الأمر سوء فهم لموقفه، فانتظرتُ أن يُنشر كلامه، بالصوت والصورة، حتى تأكدت أنه حقا فعلها.
كنت أنتظر أن يُعلن إجراءات تحول دون استمرار حرمان المواطنين الذين يتحكّم بهم من حليب الأطفال والغاز والوقود والمواد الأولية وغيرها، فإذا به يحدّد قائمة بأعدائه الجدد، تتقدّمهم مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا يعني، وفق ما يريدك أن تفهم، أن سوريا ستكون اليوم حرة، سيّدة، مستقلّة، وشعبها يعيش رخاء عظيما وبحبوحة منقطعة النظير، لو أن صحف “الوطن” و”تشرين” و”الثورة”، وشقيقاتها الإذاعية والتلفزيونية، هي التي تحتكر الرأي وتوجّه الخبر.
ولكنّ هذه النعمة الكبيرة مفقودة اليوم لأن هناك “فيسبوك” و”تويتر” و”سناب شات” و”إنستغرام” ولينكد إن” و”تلغرام” و”واتس آب” و”فايبر”.
في مواقع التواصل الاجتماعي هذه، تكمن “المؤامرة الكونية”، إذ إن بشار الأسد وأمثاله من “عظماء الحكّام”، تصيب أوطانهم النوائب الجسام، إن سمع الناس رأيا يناقض رأيهم وإن شاهدوا صورا لم يجيزوا نشرها، وأخبارا لا تتحكم بها أجهزة استخباراتهم ووزارات إعلامهم.
معه حق بشّار الأسد، فمواقع التواصل الاجتماعي شريرة جدا، فهي تتطلب منه تأليف جيوش إلكترونية ليرد على الرأي بشتيمة وعلى الفكرة بالتهديد وعلى الخبر بالتعذيب، بدل أن يكون أفراد هذه الجيوش إما يحرسون المعتقلين ويذلونهم ويعذّبونهم، أو يزرعون جدران المنازل عيونا وآذانا.
وعليه، فإن من يريد إنقاذ سوريا مما تُعاني منه عليه أن يُعين بشّار الأسد في مقاصده، فيُعيد الزمن إلى ما قبل الثورة الرقمية، ومن الأجدى إلى العصور الظلامية، حيث كان الحاكم المتوحّش يقتل بلا رحمة، ويستبد من دون أن يسمع صرخة، ويحرم الناس حتى من حق الاستغاثة، ويُلقي، وهو الممسك بمفاتيح السماء، بأرواحهم في الجحيم.
ـ 2 ـ
السفيرة الأميركية في بيروت إليزابيت ريتشارد نغصت على اللبنانيين احتفالاتهم بولادة الحكومة الجديدة، وذلك بُعيد نيلها ثقة نيابية كبيرة.
فهي بما أعلنته عن آثار تنامي دور “حزب الله” في الحكومة ذهبت باتجاه من سمّاهم رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع بـ”عطلجية 14 آذار”، أي هؤلاء الذين كانوا في صلب تأسيس الحركة الاستقلالية وأبعدهم تحالف الأحزاب، عن العمل في المجلس النيابي وفي الحكومة.
ما قالته هذه السفيرة أزعج السلطة، بكبارها وصغارها، فهم باسم الاستقرار ابتكروا معادلة سياسية أفهمتنا أنهم نجحوا في مزج الماء بالزيت، والثلج بالنار، والحقيقة بالخيال، و…الجلّاد بالضحية.
وها هي السفيرة الأميركية، بعدما أنجز الزعماء اللبنانيون معجزتهم التي على أساسها وضعوا خطط النهوض والإنقاذ و”العملقة”، تطل عليهم من مقر رئاسة الحكومة لتقول إن “الدور المتنامي في الحكومة لمنظمة لا تزال تحتفظ بميليشيا لا تخضع لسيطرة الحكومة وتستمر في خرق سياسة النأي بالنفس(…) لا يساعد على الاستقرار بل يشكل زعزعة له بشكل أساسي”.
رئيس الجمهورية ميشال عون استبق “حزب الله” في التصدي لريتشارد. وبطبيعة الحال، يشهد اللبنانيون، وبوافر من الأدلة، أنّ عون محق وريتشارد مخطئة، فـ”حزب الله” لا يشارك في حروب تجري في ثلاث دول، بما يتناقض مع تعهدات لبنان للمجتمع الدولي بالنأي بالنفس، وهو لا يحتفظ بميليشيا تستقل بقراراتها الداخلية والخارجية وتستنبط لنفسها طرق التمويل والإنفاق…
وهذا يعني أن الاستقرار، وخلافا لما قالته ريتشارد، مستقر ويتعزّز، فلا إسرائيل تهدد لبنان بحرب مدمّرة، ولا لبنان مسحوب على الرغم منه إلى محور إقليمي وعالمي ضد محور آخر، ولا شعبه منقسم، من جرّاء ذلك، عموديا وأفقيا.
السفيرة الأميركية في بيروت نغّصت الفرحة، فهي بالنسبة للمسؤولين اللبنانيين، مثلها مثل مواقع التواصل الاجتماعي، بالنسبة لبشّار الأسد.
ـ 3 ـ
مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي، مرجعية دينية عالمية، كما البابا بالنسبة للكاثوليك!
هذا القرار اتخذ في لبنان، كتبرير لمقص الرقابة الذي نزع من مجلة “كورييه أنترناسيونال”، رسما كاريكاتوريا لخامنئي، وكموجب لملاحقة قضائية حرّكها محامون ضد عدد من الإعلاميين والصحافيين لأنهم، وفي تحدّ لمنهجية الرقابة، نشروا على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي الكاريكاتور “المغضوب عليه”.
والمحامون الذين تقدموا بهذه الدعوى، إنّما فعلوا ذلك، بوكالتهم عن شخص لا صفة له، لا في السياسة ولا في المؤسسات ولا في البنية الطائفية اللبنانية ولا حتى في الأحزاب.
لكن “الوكالة الوطنية للإعلام”، وهي تابعة لوزارة الإعلام اللبنانية، أفتتها، فبعدما عجزت عن تصنيف المتقدّم بالدعوى، سارعت إلى إكسابه صفة “ناشط”، ولو أنها لم تتفضّل وتُحدد معنى هذه الكلمة ولا مصدرها ولا جذرها، ولا العلوم التي على الفرد أن يدرسها أو المؤسسات التي عليه أن ينخرط بها ليصبح “ناشطا”.
لكن، في لبنان، يبدو أنه يكفي الفرد أن يكون طائفيا حتى يكتسب الصفة المعنوية، ممّا يتيح له أن يطارد من لا تعجبه أفكاره وأخباره على مواقع التواصل الاجتماعية، عدوّة بشار الأسد وتاليا أمة الممانعة.
وبناء عليه، على اللبنانيين أن يتعاطوا مع السيد خاتمي كما يتعاطون مع البابا فرنسيس، ومع إيران كما مع الفاتيكان.
لا يهتم هؤلاء بالفارق الكبير بين المرجعيتين حاليا، فهم يتناغمون مع أنفسهم، ويريدون فعلا، على منهج “طاغية الشام”، إعادة عقارب الزمن إلى العصور الظلامية حيث كان البابا حاكما دنيويا يستقوي بالدين، فيأمر بالحروب والحملات ويكفّر هذا ويسفك دم ذاك، وتحتل جيوشه ممالك وتسقط دولا، وليس كما باباوات هذا الزمن، الذين تراهم، فترة بعد فترة، يفتحون تحقيقات في سلوك الكهنة والمطارنة والكرادلة، فيدينوهم ويقدمون اعتذارات عمّا اقترفه هؤلاء من موبقات بحق المؤمنين.
ـ 4 ـ
المشكلة في هذه المشاهد الثلاثة لا تكمن في وجهة النظر السلبية من وسائل النشر الحديثة، ولا في محاولة توسيع البعض لمساحة حريته ليضع حدودا لحرية من يناوئه فكريا.
المشكلة لا تكمن هنا، إنّما في أن هؤلاء عندما يُعلنون عداءهم لحملة القلم، يتقصّدون أن يلوّحوا لهم بـ…البندقية!
والديكتاتور ـ وبشّار الأسد نموذجا ـ لا يحب من أدوات التعبير إلا البندقية والمشنقة.
الحرة