السلايدر الرئيسيتحقيقات
الثورة الكوبيّة بعد الاستفتاء على التعديلات الدستوريّة… ونموذج التغيير في إطار الاستمراريّة
جمال دملج
– بيروت – من جمال دملج – عندما ألقى الزعيم التاريخيّ الكوبيّ الراحل فيدل كاسترو خطابه السنويّ التقليديّ يوم السادس والعشرين من شهر تمّوز (يوليو) عام 2006 أمام مئات الآلاف من أبناء شعبه في مناسبة إحياء الذكرى الثالثة والخمسين للهجوم الذي قاده عام 1953 على “ثكنة مونكادا” تمهيدًا لانطلاقة الثورة لاحقًا ضدَّ نظام الديكتاتور فولغينسيو باتيستا، لم يعرف أحدٌ من المحتشدين أنّ هذا الرجل الثمانينيّ الصامد والواقف فوق المنصّة بشموخٍ يُشبه نخيل بلاده سوف يضطرُّ بعد أيّامٍ قليلةٍ فقط لدخول المستشفى جرّاء إصابته بالتهاباتٍ حادّةٍ في الأمعاء، وبالتالي، فإنّ أحدًا من هؤلاء المحتشدين، وكنتُ من بينهم، لم يعرف في الموازاة أنّ ذلك الخطاب سيُقدَّر له أن يكون الأخير، ولا سيّما بعدما قُدِّر لفترة مرضه أن تطول عامًا بعد عامٍ، قبل أن يصحو العالم في نهاية المطاف على صدمة خبر وفاته يوم الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2016 عن عمرٍ يُناهز التسعين عامًا من العطاء، مخلِّفًا وراءه سيرةَ قائدٍ شجاعٍ لم تتوقَّف تجلِّيات عنفوانه عند حدِّ النجاح ببراعةٍ فائقةٍ في مقاومة وقهر الحصار الأميركيّ الذي فُرِض على كوبا طيلة ما يزيد عن خمسينَ عامًا من الزمان وحسب، وإنّما في التمسُّك بثوابتِ مقولته الخالدة عن أنّ “الفكر أقوى من السلاح”، وهي الثوابت التي ظلَّ وهجها يلازمه في السرّاء والضرّاء، على رغم تعرُّضه لأكثرَ من ستِّمئةِ محاولةِ اغتيالٍ فاشلةٍ، تمّ معظمها بتخطيطٍ أميركيٍّ واضحٍ للعيان.
توصية مالوري
وإذا كانت العادة قد درجت على أن تتمايَز نبرة صوت الكوبيّين بالزهوّ والفخر لدى التحدُّث أمام زوّارهم الأجانب عن أنّ لا أحد يُشبه نخيل بلادهم من حيث قدرته الفائقة على جذْبِ البرْقِ وتحدّي الرعدِ وعدمِ الانحناءِ أمام الرياح والأعاصير أكثر من الـ “كوميندانتي” فيدل كاسترو، فإنّ مردَّ ذلك يعود إلى كون الحصار الأميركيّ، وإنْ التفَّ كطوقٍ حديديٍّ حول رقابهم منذ انتصار الثورة عام 1959 ولغاية رفعِه عام 2014 في أعقاب إعادة العلاقات الديبلوماسيّة بين واشنطن وهافانا إلى سابق عهدها، ولكنّه لم يتسبَّب يومًا في الحدِّ من إصرارهم على التمسُّك بإرادة الحياة، وهي الإرادة التي كان لزعيمهم وقائدهم التاريخيّ الفضل الأكبر في حمايتها وصونها وترسيخها، حتّى ولو أنّ صرامة الحصار المذكور لم تكن مختلفةً عن أعمال الإبادة بموجب ما تنصُّ عليه المادّة الثانية من معاهدة جنيف للوقاية من جريمة الإبادة والمعاقبة عليها، ولا سيّما إذا أعدنا للذاكرة فحوى التوصية التي كتبها نائب وزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون القارّة الأميركيّة ليستر ديويت مالوري يوم السادس من شهر نيسان (أبريل) عام 1960، أيْ بعد مرورِ أشهرٍ قليلةٍ فقط على انتصار الثورة الكوبيّة، والتي جاء فيها ما حرفيّته: “لا توجد معارضة سياسيّة فاعلة في كوبا. وعليه، فإنّ السبيل الوحيد المتوفِّر لدينا اليوم من أجل إخماد الدعم الداخليّ للثورة، يتمثَّل في خلقِ حالةٍ من الاستياء والتذمُّر، تقوم على أساس الضيق والصعوبات الاقتصاديّة. ومن هذا المنطلق، ينبغي على وجه السرعة استخدام أيَّ وسائلَ يمكن للعقل أن يتصوَّرها من أجل إضعاف حياة كوبا الاقتصاديّة، بغية التسبُّب بالجوع واليأس والإطاحة بالحكومة”.
الرفاق السوفييت
ولعلّ أهمَّ ما ينبغي استحضاره في سياق الحديث عن تجربة الثورة الكوبيّة يتمثَّل في وجوب التنويه بأنّ كافّة المشكلات الناجمة عن المواقف والتوجُّهات الأميركيّة الآنفة الذكر، وإنْ كانت قد تفاقمَت بشكلٍ قياسيٍّ خلال عقد التسعينيّات من القرن العشرين إثر تفكُّك الاتّحاد السوفييتيّ، حيث توالَت الأزمات الاقتصاديّة على الجزيرة التي راحت تخسَر سنويًّا ستّةَ ملياراتِ دولارٍ من المساعدات، وعشرةَ ملايينِ طنٍّ من النفط، وأُجبرت على بيع قصب السكَّر بسعره الاعتياديّ في السوق العالميّ بعدما كانت موسكو تشتريه منها في السابق بأربعةِ أضعافِ ذلك السعر كردٍّ على الحصار الأميركيّ، ولكنّ ذلك كلّه لم يحُلْ دون قيام السلطات الكوبيّة بالبحث عن مواردَ بديلةٍ تؤهِّلها للاستمرار في المحافظة على ثوابتها الثوريّة، ولا سيّما عن طريق إنعاش صناعة السياحة التي سرعان ما أصبحت بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبًا في سلّة الاقتصاد المحلّيّ بعدما راح عدد السيّاح يرتفع تدريجيًّا بالفعل، سواءٌ على خلفيّة ما تقدِّمه الجزيرة من معالمَ طبيعيّةٍ وأثريّةٍ رائعةٍ أم على خلفيّة سيرتها السياسيّة المستمَدّة من تاريخ عدائها التقليديّ مع الولايات المتّحدة، الأمر الذي أدّى تلقائيًّا إلى ارتفاع دخل المواطن الكوبيّ، وبالتالي، إلى تحصينه في مواجهة إغراءات الوقوع في الأفخاخ الأميركيّة حفاظًا على إرثه الثوريّ.
التعديلات الدستوريّة
على هذا الأساس، يُصبح في الإمكان القول يقينًا إنّ كافّة التعديلات المرتقَبة ذات الصلة بالتغييرات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في الدستور التي يشارك الكوبيّون اليوم الأحد في استفتاءٍ عامٍّ حولها، سواءٌ من حيث الاعتراف بدور السوق والحقّ في الملكيّة الخاصّة أم من حيث وضع القواعد لتحديد فترة الولاية الرئاسيّة والتأسيس لمنصب رئاسة الوزراء، لن تكون أكثر أو أقلّ من تجسيدٍ عمليٍّ جديدٍ لنهج “التغيير في إطار الاستمراريّة” الذي أسّس ركائزه راؤول كاسترو في أعقاب تسلُّمه مقاليد الحُكم إثر مرَض، ومن ثمَّ وفاة، شقيقه الأكبر فيدل، وهو النهج الذي لا يزال يُبقي الجزيرة شيوعيّةً حتّى النخاع أسوةً بالتجربتين الصينيّة والفيتناميّة، والذي لا يزال الرئيس الحاليّ ميغيل دياز كانيل يسير على دربه بخطواتٍ ثابتةٍ ومتَّزنةٍ تحفظ للثورة إرث الأخوين كاسترو وللكوبيّين حقَّهم في مجاراة العصر… وحسبي أنّ سبب الإشارة في هذه العجالة إلى نهج “التغيير في إطار الاستمراريّة” يعود إلى أنّنا أحوَج ما نكون إلى مثيلٍ له هنا في الوطن العربيّ، ولا سيّما أنّ “ثوراتنا” المعلَّبة والجاهزة للأكل لطالما أكلَت مريديها وأنصارها على حدٍّ سواء، حتّى قبل بلوغ الأهداف المرجوَّة منها، وحتّى قبل أن تكتسِب صفة الثورات… ويا ليت النخيل العربيّ يُشبه قليلًا النخيل الكوبيّ في عنفوانه، ويا ليت كلّ “الثوريّين” العرب يُنجبون لنا يومًا قائدًا فذًّا يعلِّمنا أنّ الفكر أقوى من السلاح، ويصمد، ويصمد، ويصمد، إلى أن توافيه المنيّة حرًّا وأبيًّا وشامخًا، فيبقى إرثه حاضِرًا في الأرض جيلًا بعدَ جيلٍ، وتصعد به روحه مرفوع الرأس لملاقاة بارئه في السماء… والخير دائمًا من وراء القصد.