أكثر من ثلاثين سنة والمناكفات السياسية الفرنسية، تقذف باللغة العربية إلى الوراء، رغم كثرة عدد المهاجرين، وحاجتهم إلى تعلم لغتهم الأم. وزير التربية الحالي ميشال بلانكيه ليس أول من يلفت إلى ضرورة توفير تعليم جيد للعربية لمن يرغب إلى جانب لغات أخرى، فقد سبقته زميلته نجاة فالو بلقاسم وهوجمت بسبب أصولها المغاربية، وقبلهما وبإلحاح كان جاك لانغ وهو وزير للثقافة ومن ثم للتربية، من المدافعين عن الثقافة العربية ولغتها والمدركين لأهميتها.
ولا يزال الرجل يتحسر على الفرص التي ضاعت بسبب ضيق الأفق، ومحدودية الرؤية، وسيبقى يتأسف طويلاً جداً، لأن ذهنية مواطنيه لم تتغير بل تزداد عناداً.
وثمة دراسات فرنسية قديمة نصحت منذ ثمانينات القرن الماضي، ومن ثم مع تصاعد العنف في الضواحي البائسة بتدريس المهاجرين لغتهم الأم، لتربية جيل أكثر تسامحاً مع الذات وتصالحاً مع محيطه، لكن الدعوة لم تسمع. وكان هناك باستمرار لغويون يذكّرون بأن من لا يتعلم لغته الأصل لن يتقن أي لغة أخرى، ولن يجد سلامه الداخلي. وأجرى الفرنسيون تجارب في مدارس ابتدائية، في مستعمرات أفريقية سابقة بينت أن الأطفال حين يتعلمون لغتهم المحلية لسنة أو اثنتين قبل الفرنسية يجيدون اللغة الثانية بشكل أفضل وأسرع، ويظهرون ذكاء أكبر في استيعاب المعلومات. ولويس جان كالفي واحد من اللغويين الذين ينادون «بإعطاء الأولوية والحصرية للغة الأم في سنوات التدريس الأولى، لأن التعليم يعطي بعد ذلك نتائج أكثر نجاعة».
لكن السياسة لها من النزق عادة، ما يجعلها تدير ظهرها لما لا يناسب هواها. وكما فرنسا لا تزال بريطانيا تمول وتشجع تعليم الإنجليزية حتى لمن لم يتعلموا لغتهم الأولى بعد، وغالبية صناع السياسة في فرنسا، يعطون الأولوية لروح وطنية شوفينية على حساب السوية النفسية واللغوية لأبناء المهاجرين من مواطنيهم.
وسعت ألمانيا منذ تدفق المهاجرين إليها مطلع عام 2011 لتأمين تعليم العربية للأطفال الهاربين مع عائلاتهم من الثورات الجحيمية، كما الألمانية باعتبار التعليم الأولي حقاً للطفل بصرف النظر عن جنسيته. أكثر من ذلك، فهي تسعى إلى تعليم العربية إلى موظفين في الخارجية ومؤسسات وهيئات حكومية وكذلك شركات، لأن الحاجة إلى التواصل مع المنطقة العربية سينمو في المستقبل والعلاقات الاقتصادية يفترض أن تتوطد بوجود ما يقارب مليون عربي على أراضيها، وما يقارب خمسة ملايين مسلم. ولا داعي للتذكير أن أكثر من خمسين مليون مسلم صاروا مقيمين على الأراضي الأوروبية.
فرنسا تهرب إلى الأمام، وتتجاهل المشكلة بدل أن تحلها. واقتراح ميشال بلانكيه يأتي بعد تقرير أظهر أن عدد الذين يدرسون العربية في المدارس انخفض إلى العشر، ولم يعد يتجاوز 14 ألفاً، بينما زاد بالنسبة نفسها في المؤسسات الدينية ليصبح 50 ألفاً. والرغبة هي في تأمين تعليم للغة دون أن تكون قاطرة دينية أو حمّالة أفكار متطرفة، وتحت رعاية الدولة لا جهات لا يمكن معرفة توجهاتها. ومع ذلك يجد المعارضون حججاً بعضها مقنع وأكثرها غريب للقول بأنها خطوة ستتسبب في «تعريب فرنسا وأسلمة البلاد» أو أن العربية «لغة لا تفسح فرصاً للعمل ولا تنفع صاحبها في المستقبل». ووصل الأمر حد السخرية من وزير التربية لأنه وصف العربية بأنها «لغة أدب كبير وواسع»، وذهب البعض إلى اجتزاء كلامه وتوظيفه على عكس مضمونه.
وأينما ذهبت تجد أبناء الجاليات المهاجرة يتحدثون لغات أهلهم كما الأرمني والتركي والكردي، ولن تعثر على كثيرين تعلموا عربية أهلهم، وهذا قد يفسر بقاء هذه الجاليات هامشية حيث حلّت، وتشعر بالاضطهاد والدونية، ولا غرابة بعد ذلك أن يصبح شبانها عرضة لغوايات المتطرفين الذين يعدونهم بالثأر لأنفسهم والاستقواء على غيرهم بالقتل.
وهذا ليس رأياً شخصياً، ولا اجتهاداً ذاتياً، بل هو ما ينبه إليه الألسنيون الذين يعرفون قيمة اللغة الأم، وما توفره لصاحبها من طمأنينة وحوافز وثقة بالنفس.
ويباهي الفرنسيون بأن علاقتهم التعليمية بدأت مع العربية منذ القرن السادس عشر، ويتغنون بخمسة قرون من الانفتاح الأكاديمي على العالم العربي، ويتناسون أن مؤسساتهم هذه كانت دوافعها كولونيالية، ودراساتهم أبعد ما تكون عن البراءة والنفحة الإنسانية. وتعيش بلجيكا، راهناً تجربة مماثلة لجارتها، مع مقاومة يلاقيها كل صوت يدعو إلى فسح المجال أمام المهاجرين لإتقان لغتهم، لأسباب شبيهة جداً بالتي نسمعها في بلاد موليير.
وتخسر فرنسا كثيراً، حين تربط لغة مثل العربية بالدين، وتسيّس دراسات، ويخضع التعليم فيها لمناكفات الأحزاب، واستدرار الشعبوية الرخيصة. ويذكّر المناهضون للانغلاق بأن ما يقارب 800 لفظة عربية يتداولها الفرنسيون ودخلت صلب لغتهم، وأن لغة الضاد هي الثانية التي يتكلم بها الناس في يومياتهم، وأن الثقافات يفترض أن لا تدسّ بها قضايا كالإرهاب. لكن عبثاً، ثمة تيار ينمو، ليس في فرنسا وحدها، يسطّح ويبسّط حد ازدراء العلم، وتهميش العلماء، وإعلاء شأن الخطابات الرنانة، والأفكار الجاهزة، والعصبيات الضيقة، ولم يعد من صوت يعلو على المصلحة السياسية الانتهازية.
ولا يزال الرجل يتحسر على الفرص التي ضاعت بسبب ضيق الأفق، ومحدودية الرؤية، وسيبقى يتأسف طويلاً جداً، لأن ذهنية مواطنيه لم تتغير بل تزداد عناداً.
وثمة دراسات فرنسية قديمة نصحت منذ ثمانينات القرن الماضي، ومن ثم مع تصاعد العنف في الضواحي البائسة بتدريس المهاجرين لغتهم الأم، لتربية جيل أكثر تسامحاً مع الذات وتصالحاً مع محيطه، لكن الدعوة لم تسمع. وكان هناك باستمرار لغويون يذكّرون بأن من لا يتعلم لغته الأصل لن يتقن أي لغة أخرى، ولن يجد سلامه الداخلي. وأجرى الفرنسيون تجارب في مدارس ابتدائية، في مستعمرات أفريقية سابقة بينت أن الأطفال حين يتعلمون لغتهم المحلية لسنة أو اثنتين قبل الفرنسية يجيدون اللغة الثانية بشكل أفضل وأسرع، ويظهرون ذكاء أكبر في استيعاب المعلومات. ولويس جان كالفي واحد من اللغويين الذين ينادون «بإعطاء الأولوية والحصرية للغة الأم في سنوات التدريس الأولى، لأن التعليم يعطي بعد ذلك نتائج أكثر نجاعة».
لكن السياسة لها من النزق عادة، ما يجعلها تدير ظهرها لما لا يناسب هواها. وكما فرنسا لا تزال بريطانيا تمول وتشجع تعليم الإنجليزية حتى لمن لم يتعلموا لغتهم الأولى بعد، وغالبية صناع السياسة في فرنسا، يعطون الأولوية لروح وطنية شوفينية على حساب السوية النفسية واللغوية لأبناء المهاجرين من مواطنيهم.
وسعت ألمانيا منذ تدفق المهاجرين إليها مطلع عام 2011 لتأمين تعليم العربية للأطفال الهاربين مع عائلاتهم من الثورات الجحيمية، كما الألمانية باعتبار التعليم الأولي حقاً للطفل بصرف النظر عن جنسيته. أكثر من ذلك، فهي تسعى إلى تعليم العربية إلى موظفين في الخارجية ومؤسسات وهيئات حكومية وكذلك شركات، لأن الحاجة إلى التواصل مع المنطقة العربية سينمو في المستقبل والعلاقات الاقتصادية يفترض أن تتوطد بوجود ما يقارب مليون عربي على أراضيها، وما يقارب خمسة ملايين مسلم. ولا داعي للتذكير أن أكثر من خمسين مليون مسلم صاروا مقيمين على الأراضي الأوروبية.
فرنسا تهرب إلى الأمام، وتتجاهل المشكلة بدل أن تحلها. واقتراح ميشال بلانكيه يأتي بعد تقرير أظهر أن عدد الذين يدرسون العربية في المدارس انخفض إلى العشر، ولم يعد يتجاوز 14 ألفاً، بينما زاد بالنسبة نفسها في المؤسسات الدينية ليصبح 50 ألفاً. والرغبة هي في تأمين تعليم للغة دون أن تكون قاطرة دينية أو حمّالة أفكار متطرفة، وتحت رعاية الدولة لا جهات لا يمكن معرفة توجهاتها. ومع ذلك يجد المعارضون حججاً بعضها مقنع وأكثرها غريب للقول بأنها خطوة ستتسبب في «تعريب فرنسا وأسلمة البلاد» أو أن العربية «لغة لا تفسح فرصاً للعمل ولا تنفع صاحبها في المستقبل». ووصل الأمر حد السخرية من وزير التربية لأنه وصف العربية بأنها «لغة أدب كبير وواسع»، وذهب البعض إلى اجتزاء كلامه وتوظيفه على عكس مضمونه.
وأينما ذهبت تجد أبناء الجاليات المهاجرة يتحدثون لغات أهلهم كما الأرمني والتركي والكردي، ولن تعثر على كثيرين تعلموا عربية أهلهم، وهذا قد يفسر بقاء هذه الجاليات هامشية حيث حلّت، وتشعر بالاضطهاد والدونية، ولا غرابة بعد ذلك أن يصبح شبانها عرضة لغوايات المتطرفين الذين يعدونهم بالثأر لأنفسهم والاستقواء على غيرهم بالقتل.
وهذا ليس رأياً شخصياً، ولا اجتهاداً ذاتياً، بل هو ما ينبه إليه الألسنيون الذين يعرفون قيمة اللغة الأم، وما توفره لصاحبها من طمأنينة وحوافز وثقة بالنفس.
ويباهي الفرنسيون بأن علاقتهم التعليمية بدأت مع العربية منذ القرن السادس عشر، ويتغنون بخمسة قرون من الانفتاح الأكاديمي على العالم العربي، ويتناسون أن مؤسساتهم هذه كانت دوافعها كولونيالية، ودراساتهم أبعد ما تكون عن البراءة والنفحة الإنسانية. وتعيش بلجيكا، راهناً تجربة مماثلة لجارتها، مع مقاومة يلاقيها كل صوت يدعو إلى فسح المجال أمام المهاجرين لإتقان لغتهم، لأسباب شبيهة جداً بالتي نسمعها في بلاد موليير.
وتخسر فرنسا كثيراً، حين تربط لغة مثل العربية بالدين، وتسيّس دراسات، ويخضع التعليم فيها لمناكفات الأحزاب، واستدرار الشعبوية الرخيصة. ويذكّر المناهضون للانغلاق بأن ما يقارب 800 لفظة عربية يتداولها الفرنسيون ودخلت صلب لغتهم، وأن لغة الضاد هي الثانية التي يتكلم بها الناس في يومياتهم، وأن الثقافات يفترض أن لا تدسّ بها قضايا كالإرهاب. لكن عبثاً، ثمة تيار ينمو، ليس في فرنسا وحدها، يسطّح ويبسّط حد ازدراء العلم، وتهميش العلماء، وإعلاء شأن الخطابات الرنانة، والأفكار الجاهزة، والعصبيات الضيقة، ولم يعد من صوت يعلو على المصلحة السياسية الانتهازية.
الشرق الأوسط