أثار مقطع فيديو مقتطع من برنامج تبثه قناة دويتشه فيليه العربية (DW) جدلا في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تظهر فيه الشابة وئام شوقي وهي توجه حديثا بلهجة حادة لأحد ضيوف البرنامج، رئيس هيئة علماء السودان، الدكتور محمد عثمان صالح.
ناقشت حلقة برنامج “شباب توك” عدة مواضيع شملت: الحق المتساوي للوالدين في تربية الأطفال ورعايتهم والوصاية عليهم، زواج الطفلات القاصرات، التحرش ضد النساء والفتيات، وقانون النظام العام.
دفعت وئام بعدة قضايا في وجه ممثل السلطة الدينية الرسمية، وفي مقدمة تلك القضايا نفيها القاطع أن يكون زي المرأة أو عمرها هو الذي يدفع الرجال للتحرش بها، حيث ذكرت أن والدتها تبلغ الخامسة والستين من العمر وترتدي الثوب السوداني “لباس قومي للمرأة يغطي كامل جسمها” ومع ذلك لم تنج من التحرش. وقالت إن المتحرش شخص مريض لا ينظر للمرأة كإنسان ولكنه يراها كجسد مسخر لتحقيق رغبته الجنسية.
طالبت الفتاة بأن يكون للمرأة الحرية في اختيار ملابسها، ودعت رئيس هيئة العلماء للمناداة بضرورة مساواة المرأة بالرجل في الأجور، وأن يعدل قانون الأحوال الشخصية حتى يصبح من حق المرأة الاحتفاظ بعصمة الزواج، وطالبت بضرورة تغيير الصورة الذهنية السلبية التي يحملها رجال شرطة “النظام العام” تجاه المرأة التي تسير في الشارع وحيدة في الليل، وأن يكون لها الحق في الحركة في جميع الأوقات والأماكن مثل الرجل.
بدت وئام غاضبة بشكل كبير في حديثها، وتحدثت وهي تصوب إصبعها السبابة تجاه رئيس هيئة العلماء أثناء كلامها، وهذا أمر له دلالة سلبية في ثقافة وتقاليد المجتمع السوداني، خصوصا عند الحديث مع كبار السن، ومع ذلك لاقى كلامها قبولا كبيرا وسط الجمهور داخل الاستوديو الذي تجاوب معها بالتصفيق الحار.
وقد أوضحت وئام في بيان لاحق أنها كانت غاضة بسبب تعليقات رئيس هيئة علماء السودان الذي بدأ بالحديث عن التحرش، وتبعه بتعليق منه عن زواج القاصرات، حيث أوحى بأن زي الفتيات هو سبب التحرش “كما ذكر بأن الفتاة فور بلوغها يجب عليها أن تتزوج. فقالت عزة سر الختم بأنها بلغت في العاشرة من عمرها، فباغتها بالسؤال: “ألم تكن لديك شهوة للرجال؟” فعندما جاوبت بالنفي ذكر لها بأنها إذا “’غير طبيعية’”.
وتواصل وئام بالقول: “لحظتها تملكني غضب عارم على تلك الأجوبة المستفزة. إنه رجل يسيء للجميع الآن! بدأت بالطرق على الأرض بقدمي حتى جاءتني الفرصة من قبل مدير الحلقة”.
وجد كاتب هذه السطور من خلال تتبعه لردود الفعل على حديث الفتاة في وسائل التواصل الاجتماعي، أن طيفا واسعا من الذين تناولوا الموضوع لم يهتموا بجوهره المتمثل في القضايا الجدية التي أثارتها وئام في مداخلتها مع رئيس هيئة العلماء، بل ركزوا على هامشه المتمثل في الكيفية التي طرحت بها أراءها والتي اعتبروا أن فيها شيئا من عدم الاحترام لكبار السن.
هذا الاتجاه المتمثل في الانصراف عن لب القضايا والتمسك بالقشور يمثل واحدة من الآفات الكبيرة التي يعاني منها مجتمعنا السوداني، والمجتمعات العربية والإسلامية على وجه العموم، وهو يعبر عن ثقافة راكدة موروثة تراكمت عبر العديد من القرون التي ساد فيها الجمود الديني والفكري، وطبعها الاستبداد والقمع السياسي، وغابت فيها الحرية.
غير أن الأمر الأهم من ذلك هو أن كثير من الذين تصدوا للفتاة قد أغضبهم قولها الجريء إن زيها الذي ترتديه: “يحترم إنسانيتها ويخضع لحريتها في الاختيار ولا يخضع للمجتمع بكل عاداته وتقاليده المريضة”.
الجملة المفتاحية أعلاه هي التي تفسر ردة الفعل العنيفة التي جوبهت بها الفتاة، فهي تستبطن الدعوة لإعادة النظر في الكثير من الأعراف والقوانين الاجتماعية الموروثة، وهي تحرض على التميز والاستقلالية والفردانية في مقابل التقليد والمسايرة والجماعية؛ وهو أمر لا يجد ترحيبا من سلطات مجتمعية وسياسية ودينية كثيرة لا ترغب في التغيير وتعمل من أجل استمرار الأوضاع الراهنة.
هذه السلطات لديها من قوة التأثير والقمع ما يمكنها من مقاومة الآراء المخالفة باعتبارها خروجا عن ثوابت الدين والمجتمع وتصوير أصحابها بأنهم يحملون أفكارا منحرفة تمثل خطرا كبيرا على الأعراف الراسخة، أو أنهم مجرد أدوات في أيدي قوى خارجية متآمرة توظفهم للعب أدوار لا يدركون أهدافها وغاياتها النهائية.
ويتضح هذا الأثر من خلال البيان الذي أصدره رئيس هيئة علماء السودان عقب ذيوع مقطع الفيديو حيث دعا في بيانه إلى أن “تضبط وزارة الإعلام نشاط القنوات التي تشوه صورة البلاد مثل هذه القناة”، وكذلك طالب القنوات الفضائية السودانية بالانتباه “لما يحاك ضد البلاد فلا تتعاون مع الذين يأتون بقصد التشويه”، ونادى على الشباب، خاصة الفتيات، بضرورة الانتباه “لما يراد بهم من انفلات وبخاصة الفتيات!”.
ها هو رئيس هيئة العلماء ينقل حديث الفتاة من خانة ممارسة الحرية عبر التعبير الواعي الناقد للأوضاع السائدة إلى مؤامرة تحاك ضد البلاد، ويدعو الحكومة ممثلة في وزارة الإعلام إلى لتضييق على القنوات الفضائية التي تثير مثل هذه القضايا الحيوية، كما أنه لا ينسى أن يلخص التساؤلات التي طرحتها وئام في كونها مجرد انفلات عن التقاليد السائدة.
وكذلك انطلقت حملة شعواء من منابر المساجد في صلاة الجمعة، حيث شن عدد من الأئمة والوعاظ هجوما شديد اللهجة على الشابة وئام واعتبروا حديثها جزءا من حملة منظمة تستهدف المجتمعات الإسلامية، ولم يكتف أحدهم بذلك بل أصر على تصويب سهامه نحو مقدم البرنامج، جعفر عبد الكريم، واتهمه بالمجيء للسودان للترويج للإلحاد.
لم تقف الضغوط عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل قناة “سودانية 24″، وهي الفضائية المحلية التي يربطها اتفاق تعاون مع القناة الألمانية لبث برنامج “شباب توك”، حيث قام بعض الكتاب الصحفيين بتحريض السلطات الحكومية عليها، مما اضطر إدارة القناة لإصدار بيان تنفي فيه صلتها المباشرة بالبرنامج وتقول إنه “بحكم اتفاقية التعاون بين القناة والتلفزيون الألماني تنحصر مهمتنا في توفير الدعم الفني”.
وكذلك قام جهاز الأمن والاستخبارات الوطني باستدعاء مدير قناة “سودانية 24″، الطاهر حسن التوم، وحقق معه بخصوص حلقة برنامج “شباب توك”، وأيضا رابطت عربة محملة بالجنود المدججين بالسلاح أمام مقر القناة، بعد تزايد المخاوف من تعرضها لهجوم على أيدي جماعات دينية متشددة.
فات على هؤلاء جميعا أن المطالبات التي نادت بها هذه الشابة ليست أمرا جديدا، أو قاصرا على السودان، بل هي دعوات ظل صداها يتردد في المجتمعات العربية والإسلامية منذ أمد طويل، حيث تعاظم دور المرأة ووعيها بحقوقها بعد أن اقتحمت مجالات التعليم والعمل والحياة العامة وانفتحت على ما يجري في بقية أنحاء العالم، والجميع يتابع حاليا الخطوات الجادة التي اتخذتها الدولة التونسية من أجل مساواة المرأة بالرجل في الميراث.
من المؤكد أن السلطات التقليدية صاحبة المصلحة في بقاء الأوضاع كما هي لن تقف مكتوفة الأيدي، وستسعى لاستخدام كافة الأسلحة المتوفرة لديها من أجل قمع الأصوات المنادية بتغيير أوضاع المرأة، وسيكون في مقدمة هذه الأسلحة التضييق الشديد على حرية التعبير والحديث في مثل هذه الموضوعات التي تشكل تهديدا مباشرا للمكاسب المتحققة لتلك السلطات.
إن جوهر الصراع الذي عكسه هذا النقاش يتمحور حول طبيعة الوعي وأنماط التفكير والمصالح، هو صراع بين الماضي والمستقبل، بين قوى صاعدة ترنو للتغيير وأخرى جامدة تهدف إلى الحفاظ على الأمر الواقع، ولن تتورع الأخيرة عن ممارسة جميع أنواع الضغوط على أصحاب الأفكار الجديدة حتى تضطرهم إلى مجاراتها حرصا على سلامتهم أو يلوذون بالصمت أو ينجون بأنفسهم هربا خارج البلاد، وبالتالي يتم حرمان المجتمع من أفضل العقول القادرة على إحداث النهضة.
الحرة