أقلام مختارة

انحسار أدوار الجيوش النظامية وغلبة حرب الغوار والحرب الأهلية على النزاعات المسلحة

برونو كابان

عند منعطف القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر، في أعقاب الثورتين الأميركية والفرنسية، تغيرت طبيعة الحرب في أميركا الشمالية وفي أوروبا: لم تعد الجيوش المتحاربة ملكية، وحلت محل هذا الصنف من الحروب حروب الأمم. واعتقد المواطنون، أو حملوا على الاعتقاد مع التجنيد الالزامي الذي ابتدأته فرنسا في 1798، بأن حمل السلاح لا يترتب على الولاء للحاكم بل هو ثمرة انتساب الى جماعة (أمة). ويقضي الواجب بالدفاع عن مثال ثوري أو وطني. و «تأميم» الحرب توسل ببعد ثقافي، وعرف الرجولة تعريفاً جديداً. ففك رباطها بالنموذج الأرستقراطي الذي يعلي شأن المبارزة والشرف، وقدم عليه نموذجاً ديموقراطياً يوجب على كل رجل بلغ سن الرشد أن يزاول الجندية ويبرع فيها.

ولكن الحقبة الثورية لم تنقطع انقطاعاً تاماً مما سبقها. فالصورة التي استقرت عليها الحرب نشأت تدريجاً في أثناء القرن التاسع عشر. فالملاحم النابوليونية عَلَمٌ على جمهرة الجيوش والمعارك. واختلفت أحجام هذه عما كانت عليه في القرن الثامن عشر: احترب في معركة واغرام (5-6/7/1809) 300 ألف رجل، ونحو 500 ألف في لايبزيغ (19-16/10/1813). ولم يسبق أن اصطف للقتال في ساحة معركة هذا العدد من الجنود على أرض أوروبية من قبل. فالحرب انقلبت حرب «جماهير». وتبنت الدول هذا المثال على صيغ متفرقة: فبروسيا لم تقر التطويع الإلزامي إلا في 1813 بعد هزيمتها أمام نابليون. وبقيت بريطانيا متمسكة بمبدأ الجيش المحترف، وبملحق من المتطوعين، إلى 1916. ولم تلغ أشكال قديمة من الحرب، مثل المبارزة برأس الحربة («السنكة»)، حتى بعد تجاوز التحديث التقني هذه الأشكال. فحركات المنازلة الفردية التي تجسد الشجاعة الشخصية حافظت على بعض مكانتها إلى وقت متأخر.

وذهب ببعض المؤرخين، مثل فيكتور ديفيد هانسون («نموذج الحرب الغربي. معركة المشاة في اليونان القديمة، 1989)، إلى أن ثمة نموذجاً حربياً اختص به «الغرب»، قوامه الجندي – المواطن. ووفق المؤرخ الأميركي أن نمط هذه الحرب هو من صنيع «أثينا» العصر الكلاسيكي، ومقاتلها الراجل حامل الترس في إطار جماعة ينتظمها الكردوس المتماسك والمتضافر. وبدا هذا النموذج، في عين المؤرخ، متصلاً من العصر اليوناني القديم إلى حروب الولايات المتحدة في أواخر القرن العشرين. وهذا الرأي ذو صبغة إيديولوجية طاغية، تستلهم رؤيا محافظة جديدة، وتفترض تفوق النموذج الغربي على «نماذج شرقية» مزعومة مترتبة على شرق متوهم ومتخيل. فالتطويع في الصين قديم، ويرقى إلى اسر الهان الحاكمة (القرن الثالث ق.م. – القرن الثالث بعده)، وإلى سلالة تانغ (القرن السابع م. – القرن العاشر).

وعموماً، بالغ منظرون عسكريون كثر في المقابلة بين الحرب التقليدية، وهي مواجهة ضخمة ومنظمة على مسرح مشرَّع وبين حرب الغوار (العصابات، الطياحة)، وهي نسيج إغارات وكمائن وهجمات خاطفة. وهي مقابلة، من ناحية أخرى، بين كلاوزفيتز، الجنرال البروسي ومعاصر نابليون وكاتب «في الحرب»، وبين صن تزو (الصيني) أو بين الاستراتيجية والمراوغة. ولا يتبنى مؤرخ، اليوم، هذه المقابلة. ففكر كلاوزفيتز لا يقتصر على تناول الحرب (النظامية) بين الدول، ويدمج حرب الغوار في معالجته الحرب التي يعرفها بـ»حرباء تبدل طبيعتها (جلدها) في كل اشتباك (جديد)». ومنذ العصور القديمة، لم تنهض الحرب على جيش مشاة ينوؤن بجهاز ثقيل، فاحتسبت أشكالاً أخرى من المقاتلين الرشيقي الحركة وذوي الجهاز الخفيف.

ويبحث المؤرخون اليوم في تداول النماذج الحربية وانتقالها وتكيفها ومحاكاتها وتهجينها، فوق بحثهم في وصف نموذج على حدة. ففي مجال حرب الغوار، يلقي مسار غاريبالدي الضوء على تبادل التأثير بين إيطاليا وأميركا اللاتينية. وفي مكافحة الغوار (أو الانتفاضات)، ابتكر غالييني استراتيجية بقعة الزيت (تأمين منطقة ثم توسيع دائرة الاستقرار والازدهار انطلاقاً منها) في مدغشقر، في أعوام 1890، واستعادها ليوتي في مراكش (المغرب)، وألهمت دافيد غالولا في الجزائر، في خمسينات القرن العشرين، ثم الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس في العراق.

ولا شك في أن الحرب ين الدول غلبت على حروب القرنين التاسع عشر والعشرين. ويرى بعضهم أنها أفضت إلى «الحرب الكلية» أو «الشاملة»، وهي الصفة التي تطلق على الحرب الكبرى (الأولى). وحين استعملت العبارة في 1917، لم تدل على واقعة بل دلت على مثال نمطي على المجتمعات المتحاربة النحو إليه ومحاولة بلوغه. وهذه الحرب لم تصغ نظريتها إلا في 1935، على يد (بقلم) الجنرال الألماني لوديندورف. وحملت منذ ذاك على 1) جمع الأهداف وتوحيدها في كلٍّ هو السعي في تدمير العدو، مجتمعاً ومحاربين جميعاً، 2) وجمع الوسائل من طريق تعبئة السكان والاقتصاد في مجهود حرب متضافر- ويستتبع هذا نتائج جديدة غداة الحرب، فينبغي تسريح المدنيين كذلك، على الوجه المعنوي والذهني وحيال العدو («التسريح الثقافي»)، 3) و(حملت على) معنى إعمال العنف المسلح إعمالاً لا قيد عليه، على رغم الضوابط الإنسانية والحقوقية الموكل إليها لجم هذا العنف.

ويلاحظ أن حرب الانفصال الأميركية (1861-1866) سبقت إلى جمع السمات الثلاث هذه. إلا أن أحد المؤرخين، الأميركي ديفيد بلْ، يرى أن الحروب الثورية، وعنفها الموصوف في المدنيين (حرب الفانديه، في الشرق الكاثوليكي الفرنسي)، والحروب النابولونية، وجمهرتها المعارك (حشدها فيها أعداداً ضخمة من الجنود)، كانت ربما الصورة الاولى للحرب الشاملة أو الكلية. ولا شك في أن الحربين العالميتين، فاقمتا دور الإيديولوجية، وأنزلتا الاشتباك والتعبئة وعنف المتحاربين مكانة غير مسبوقة. وإلى تعظيم أو تضخيم سمات مشهودة في الحرب الأهلية الأميركية، بلورت الحربان «4 ميزات نوعية»، الأولى هي الانقلاب التكنولوجي الاستراتيجي في 1918: نهاية المعارك التقليدية، توسع خطوط المعارك وامتداد وقتها، حرب الخنادق، واتصالها بالصناعة الكبيرة، واستعمال المدرعات وسلاح الجو. وهذه كلها لا تقاس بالقطيعة الحاسمة التي جاءت بها القنبلة الذرية. فالبشر امتلكوا مذاك القدرة على محو أثرهم عن وجه الأرض من غير خوض معركة.

والميزة النوعية الثانية هي انقلاب نسبتي الخسائر العسكرية والخسائر المدنية. وبلغت خسائر المدنيين، وهي على الدوام عسيرة التقدير، نحو 15 في المئة من جملة عدد القتلى في حرب 1914-1918، ويطرح الأموات بسبب المجاعة والأوبئة، نظير 65 في المئة من جملة الخسائر في الحرب العالمية الثانية. وفي الحروب الأهلية المعاصرة والجارية لا تقل نسبة المدنيين عن 80-90 في المئة من جملة عدد القتلى. والسمة الأخيرة هي امحاء الفرق بين الحرب الداخلية والحرب الخارجية. وهذا بديهي في معالجة الامبراطورية النازية بالاستئصال المسألة اليهودية وجماعة الغجر والمرضى العقليين. وهو نهج الاتحاد السوفياتي وإعمال سلطاته في الحرب الأهلية الروسية معايير الحرب العالمية الأولى. وأُعمل النهج نفسه في الحرب على الفلاحين الميسورين وملاكي أرضهم (الكولاك)، ثم على الأقليات القومية: فالمجاعة (التجويع) سلاح حربي وسلاح سياسي استعمله الشيوعيون في ثلاثينات القرن العشرين.

والحربان العالميتان ليستا حربي حلفين دوليين متجانسين ومتحدين، بل هما خليط من منازعات إقليمية، لكل نزاع فيها خصائصه الموضعية والبيئة (الظرفية). فانفصال جبهة المحيط الهادئ عن الجبهة الأوروبية في الحرب العالمية الثانية أمر ظاهر، وترك أثره في الذاكرة الجمعية. وحين يدرس المؤرخ مادة التاريخ في الولايات المتحدة، لا بد من أن يلاحظ تركيز الانتباه على مسرح عمليات المحيط الهادئ، هذه الحرب التي «لا هوادة فيها»، على قول المؤرخ الكبير جون دبليو دُووير. وانصرف الانتباه إلى الجبهة الغربية في إطار الحرب الكبرى (الاولى)، وقتاً طويلاً. ويكتشف المؤرخون اليوم أماكن أخرى: أوروبا الوسطى والشرقية، الشرق الأدنى والشرق الأوسط، وعلى الأطراف أفريقيا وآسيا ومستعمرات ألمانيا في المحيط الهادئ.

ولهذه المنازعات المحلية منطقها الموضعي والمكاني، وإيقاعها الزمني الخاص. واتصال النزاعات من غير انقطاع في البلقان منذ أوائل عقدي 1910-1920 دليل على ما تقدم: حروب بلقانية في 1912 و1913، الحرب العالمية الأولى، ثم الحرب اليونانية-التركية (1919-1922). والحرب الأهلية الروسية (1917-1922) ثم الحرب الروسية – البولندية (1919-1921)، دليل آخر. ودوام الحرب في أوقات السلم مجال بحوث جديد وواعد.

وتاريخ الحرب الباردة لطالما كتب في صيغة تاريخ ديبلوماسي، وعلى شاكلة تاريخ مولود من ميزان القوى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وكتبه الاختصاصيون في العلاقات الدولية، غالباً أميركيون لا يلمون بلغات أجنبية، ويدينون برؤيتهم إلى مقدمات إيديولوجية تتصدرها عظمة الولايات المتحدة المتربعة في سدة العالم. وأدى هذا إلى تأريخ سردي يعاقب بين حقبات توتر وحقبات سكون وهدوء، ولم يشهد الانفجار الكبير المتوقع. ووصف جون لويس غاديس، أحد كبار الاختصاصيين الأميركيين في الحرب الباردة، هذه الحقبة في 1987، بـ»السلم الطويل»، ورأى أنها قد تدوم، بعد، وقتاً طويلاً… وفي الأثناء، ارتسمت خطوط معالجات جديدة. ونشر أود آرن ويستاد في 2017 كتاباً رائعاً لا يقصر الاهتمام على منطق علاقات الشرق بالغرب والغرب بالشرق، فيتناول العلاقات بين الشمال والجنوب، وتأثير ميزان القوى بين الشرق والغرب في صوغ السياسات الوطنية في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا. فيبرز الخسائر الكبيرة التي ترتبت على الحرب الباردة. ويقترح المؤرخ النروجي النظر في تسلسل الحوادث والوقائع، ويذهب إلى أن ابتداء الحرب الباردة كان في 1917، مع الثورة الروسية.

والانتباه إلى الوجه الذي كابد عليه السكان المحليون مجزرة ماي لاي، القرية الفيتنامية الجنوبية، في 16/3/1968- وهم حملوها على جريمة حرب وعلى انتهاك لحرمة الآباء والجدود الذين لم يواروا الثرى على ما تقتضي الشعائر، ما اضطرهم حكماً إلى الهيام كالأطياف بين الأحياء- الانتباه إلى هذا الوجه يدعو إلى تأريخ النزاعات الدولية على أنحاء ومستويات متفرقة. والحروب الغالبة اليوم هي حروب الغوار والحروب الأهلية. وتنزع الجيوش إلى الاحتراف، وإلى التأنيث إلى حد ما. وقلصت التقانة حصة العسكريين المقاتلين من عديد الجيش العام. ويتولى الجنود وظائف لوجستية وتقنية لا تتصل بالعمل الحربي مباشرة. وأمسى ثمن التضحية بالنفس فوق ما تطيق المجتمعات الغربية تَحَمّله، بينما لا مناص لها من جبه شكل من العنف، «الجهادي»، لا يقيم وزناً للحياة الانسانية. ومن العسير على المؤرخ المعاصر التأريخ للحروب الجارية، فيما هذه الحروب لا تنضبط على مثال جامع ومشترك، ولا يستقطبها النموذج الغربي. وهذه الحال هي أفق البحث التاريخي الجاري.

* أستاذ في أوهايو ستايتس يونيفيرسيتي (كرسي دونالد وماري دان لتاريخ الحرب)، عن «ليستوار»، 9/2018، إعداد منال نحاس/الحياة اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق