أحمد الحناكي
لو فقد المبصرون نظرهم لمدة ساعة واحدة لما تشاجروا مع كفيف مدى حياتهم. عشت مع والدتي الحبيبة في بيت واحد حتى سلمتني وديعة إلى زوجتي في يوم الزفاف وما زلت أذكر ذاك اليوم جيداً، وكيف لا أذكره! إذ كنت أضم والدتي وهي تودعني وأنا أنفجر بكاءً، مع أنني سأعيش مع مالكة قلبي وشريكة عمري، لكن حبي لها وشعوري الداخلي بأنها ستعيش أكثر وحدة في ظلامها الدائم أضفى على القلب خوفاً ووحشةً وقلقاً وألماً وتأنيباً وجلداً لضميري.
نشأت كما غيري من الناس مع والدتي «الكفيفة» منذ أن كان عمرها ستة أشهر، ولكن هناك فارقا من دون شك، فلم تلتق عينانا أبداً وتعابير السعادة أو التعاسة أو الألم أو الغضب تتباين بشكل مختلف عن من يملكون البصر، غير أن والدتي عوضت أشياء كثيرة بأخرى تميزت بها، منها تلك الحساسية المفرطة وذلك الذكاء الحاد وعاطفة ملتهبة وحب يملك كل قلبها مكرس لابنيها الاثنين أخي وأنا.
يعتصرني الذنب أحياناً كما لو كنت مسؤولاً عن فقدانها البصر، وتقول والدتي «إنك كنت في الرابعة أو حواليها من العمر عندما قلت لي خذي واحدة من عينيّ لكي ترين بها».
كانت وما زالت صديقتي التي تستنبط وتسبر أغواري وتفهم مشاعري حتى من دون أن اتكلم، ولطالما دارت بيننا حوارات حول الحياة وحول كل شيء، فقد كانت تريد أن تصبح كالمبصرين على رغم نقص بعض المعطيات، والأجمل من كل ذلك هو شعورها المرهف تجاه الناس جميعاً، فإعاقتها علمتها أن البشر جميعاً متساوون، طبعاً مع الأخذ بالحسبان أنها امرأة وهو ما يجعلها أكثر حساسية وتفهماً للآخرين أي كانت ألوانهم أو عرقياتهم أو دياناتهم، لم يكن ذلك فقط، بل إن أصدقائي أصبحوا أبناء لها، فكانت بإحساسها المرهف تعرف من هو القريب ومن هو البعيد، وقلبها ينبض بمشاعر مسروقة من مشاعري وتغفر لكل الناس أي شيء سوى النيل من أبنائها.. فهذا دونه خرق العتاد. وعندما ازورها أتأملها طويلاً شاعر بأنني صغير أمام معاناتها وكفاحها ونضالها السابق حتى ربّتنا وأنشأتنا وعلّمتنا، أشعر لها بالامتنان والجميل والعرفان والولاء، إذ إنها قدمت الكثير ولا تنتظر مقابلاً إلا حباً.
بطبيعة الحال، فإن جميع الأمهات في هذا الكون يتشابهن بلغة الحب لأطفالهن، لأنها قضية غريزية غير موجودة لدى الرجل، وأمي واحدة من هؤلاء، لكن الأمر المختلف بالنسبة لها أنها أمي وثانيا أنها كفيفة، وسواء بقناعة أم تعلم أم تعصب أم سموها كما تشاؤون، أنحاز مع المكفوفين وأتعاطف معهم بكل جوارحي.
قبل شهر ذهبت مع مجموعة من الأصدقاء الأعزاء إلى منزل صديقنا الأكبر صالح الصويان (أبو نزار) لزيارته، إذ وقع بعد تعثره في المنزل ووجدناه في أحسن حال، الجميل في هذا الرجل هو هذه المثابرة والجلد على القراءة والمتابعة، وعندما جلسنا معه كان هو من يتحفنا بالجديد على رغم أنه أصبح فاقداً للبصر تماماً في سنته الأخيرة، وقبلها كان ضعيف البصر تماماً، وقال لنا -ونحن في حضرته- إن أكثر ما افتقده بعد ضعف البصر أنه اشتاق لرائحة الكتب، وأنه يدلف أحيانا للمكتبة ثم يشم ورق الكتب التي لها رائحة متميزة لا تنسى.
«الأديب الأرجنتيني خورخي بورجس استمر شغفه للكتاب حتى بعد أن فقد بصره مبكراً، حتى إنه كتب قصائد لتلك الكتب التي لا تراه ولا يراها، وتولى حراسة 80 ألف كتاب في المكتبة الوطنية في بوينس آيرس، إذ كان مديراً لها في أواسط الخمسينات، يعرف دروبها، ويهتدي وحده إلى كل كتاب فيها، يمرر أصابعه عليه فيميزه ويعرفه، ويبصر ذلك الكفيف كل شيء في المكان المفضل بالنسبة إليه، عاش بين الكتب قارئاً وموظفاً، وحين أرادت سلطات بلاده في مرحلةٍ ما معاقبته نقلته إلى وظيفة أخرى بعيداً عن حيزه الأثير المكتبة الوطنية. (الإمارات اليوم)».
@abofares1