السلايدر الرئيسيشرق أوسط
الهواجس الأمنيّة والماليّة في لبنان: حقيقةٌ أم وهمٌ أم استهدافٌ للعهد القويّ؟
جمال دملج
– بيروت – على رغم أنّ أنظار اللبنانيّين كان يُفترض أن تكون مركَّزة بالكامل على رحلة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون والوفد المرافق له إلى نيويورك في مطلع الأسبوع الجاري، تمهيدًا لرصد الأصداء السياسيّة والديبلوماسيّة للخطاب الذي ألقاه البارحة أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، فإنّ الصدام الغريب بين الأجهزة الأمنيّة العاملة في مطار رفيق الحريري الدوليّ الذي استبق موعد إلقاء الخطاب المذكور، سرعان ما خلَّف وراءه مزيدًا من البصمات السلبيّة على سمعة لبنان بأسره من بوّابة إشكاليّات حركة الملاحة الجوّيّة فيه، ولا سيّما بعدما كان المطار قد تعرَّض خلال الأشهر الأخيرة لانتهاكاتٍ متعاقبةٍ تستوجب وضع إجراءات معالجتها على رأس قائمة الأولويات الملحّة فور الانتهاء من مخاض تشكيل الحكومة العتيدة المتعثِّر أصلًا بفعل اشتداد التجاذبات الداخليّة التقليديّة بين مكوِّنات “الصيغة التوافقيّة” اللبنانيّة الراهنة.
التقديرات المتباينة
وإذا كانت المعطيات المتوافرة عن الصدام قد دلّت إلى أنّ عناصر جهاز أمن المطار تلقوا عند الصباح معلوماتٍ أمنيّةً في “شأنٍ يقتضي التحرُّك”، الأمر الذي دفعهم إلى التوجُّه نحو نقاط التفتيش عند بوّابات المغادَرة في خطوةٍ تُعتبَر روتينيّةً لدى تلقّي معلوماتٍ ذاتِ طابعٍ أمنيٍّ، فإنّ امتعاض عناصر قوى الأمن الداخليّ الذين كانوا يتواجدون حسب ما درجت عليه العادة عند تلك البوّابات، ومن ثمّ إقدامهم على إطفاء أجهزة التفتيش والانسحاب من المكان بعد مراجعة قائد سريّة الدرك في المطار العقيد بلال الحجار، ما لبث أن أدّى إلى التسبُّب بحالةٍ من الاحتقان بين الحجار ورئيس جهاز أمن المطار العميد جورج ضومط على خلفيّة تقديراتهما المتباينة حول صاحب الأحقيّة في هرميّة السلطة الأعلى في المطار، قبل حضور وزير الداخليّة والبلديّات في حكومة تصريف الأعمال نهاد المشنوق للعمل تخفيف حدّة الاحتقان على أساس أنّ “لا كيديّة بين رؤساء هذه الأجهزة” الأمنيّة، ولا سيّما بعدما عزا الإشكال إلى “سوء تفاهم حصل وتمّ حلّه”، معتبرًا أنّ “المراسيم وباب الاجتهادات هي التي خلقت هذه المشكلة”، ومشدِّدًا على أنّ “الحادثة لن تتكرَّر”، على حدّ قوله.
مستقبل الليرة
لا شكّ في أنّ هذا الإشكال الأمنيّ فرض نفسه كواقعِ حالٍ بالغ الخطورة بعد سلسلةٍ من الإشكالات بدأت مع العطل الذي طرأ يوم السابع من شهر أيلول (سبتمبر) الجاري على شبكة الاتّصالات التابعة لشركة “سيتا” المشغِّلة لنظام الحقائب والركّاب المغادرين عبر المطار، ومن ثمّ تتالي الأعطال في حركة الطيران، وصولًا إلى ما عُرف بـ “الطائرة الرئاسيّة” المتّجهة إلى نيويورك، وخصوصًا في ظلّ الحديث الدائر عن وجود نزعاتٍ ضمنيّةٍ لدى بعض الجهات المحلّيّة والإقليميّة والدوليّة تستهدف العمل على زعزعة الثقة بلبنان بالتزامن مع ضغوطاتٍ مقبلةٍ تتعلَّق بخضّاتٍ اقتصاديّةٍ وماليّةٍ محدقةٍ جرّاء تركيز التصويب في هذه الأثناء على الليرة اللبنانيّة في سياق العقوبات المفروضة على دولٍ مناوئةٍ للسياسة الأميركيّة، مثل روسيا وإيران وتركيا، ولا سيّما بعدما شهدنا خلال الأسابيع الماضية انهياراتٍ متتاليةً لكلٍّ من الروبل الروسيّ والريال الإيرانيّ والليرة التركيّة، علمًا أنّ الخبراء الاقتصاديّين سارعوا إلى إعادة وضع الأمور المتعلِّقة بمستقبل العملة الوطنيّة اللبنانيّة في سياقها الدقيق عن طريق توضيح الفارق الكبير ما بين الوضع النقديّ المتين وما بين الوضع الاقتصاديّ الحرج والمُرجَّح للتفاقم إذا لم يأخذ المسؤولون اللبنانيّون في الاعتبار ضرورة القيام بإصلاحاتٍ تعيد تصحيح الوضع الماليّ من خلال معالجة ضبط العجز المتفاقم وترشيد الإنفاق.
صرخة الرئيس
على هذا الأساس، لم يكن من المستغرَب أن يركِّز الرئيس ميشال عون في خطابه البارحة أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، وللمرّة الثانية منذ انتخابه، على أنّ المقاربات السياسيّة الدوليّة غير العادلة هي التي “أشعلت حروبًا كثيرةً وأوجدت مقاومةً لن تنتهي إلّا بانتفاء الظلم وإحقاق الحقّ”، موضحًا أنّ “أزمات الجوار لا تزال تضغط على لبنان الذي يتلمّس طريقه للنهوض من الأزمات المتلاحقة التي عصفت به”، ومشدِّدًا على أنّ “الأعداد الضخمة من النازحين وتداعياتها على المجتمع اللبنانيّ تجعل الاستمرار في تحمُّل هذا العبء غير ممكنٍ، خصوصًا وأنّ الجزء الأكبر من الأراضي السوريّة أصبح آمنًا”، ومعيدًا التذكير بمطالبته بعودتهم الآمنة في كلمته من منبر الأمم المتّحدة العام الماضي وتمييزه بينها وبين العودة الطوعيّة، ومرحِّبًا بـ “أيّ مبادرةٍ تسعى لحلّ مسألة النزوح على غرار المبادرة الروسيّة”.
وبينما رأى الرئيس عون أنّ “المقاربات السياسيّة الدوليّة لمنطقة الشرق الأوسط لا تزال تفتقر إلى العدالة، وفيها الصيف والشتاء تحت سقفٍ واحدٍ، ما يجعل مفهوم الديمقراطيّة في الدول التي تُعتبَر رائدةً فيها موضعَ شكٍّ لدى شعوبنا”، لاحظ أنّ “القضيّة الفلسطينيّة هي خيرُ تجسيدٍ لهذه الصورة”، مشيرًا إلى أنّ “العالم صوَّت أخيرًا في مجلس الأمن وفي الجمعيّة العموميّة ضدّ إعلان القدس عاصمةً لإسرائيل، وعلى رغم نتائج التصويتيْن اللذيْن عكسا إرادة المجتمع الدوليّ، تمّ نقل بعض السفارات إليها”، ومعتبِرًا أنّ “قانون القوميّة اليهوديّة لدولة إسرائيل التهجيريّ القائم على رفض الآخر يُعلِن صراحةً ضرب كلّ مساعي السلام ومشروع الدولتين”.
أمّا عن كيفيّة تحقيق السلام، فقد أبرز الرئيس عون “الحاجة إلى الحوار وإلى إنشاء مؤسّساتٍ ثقافيّةٍ دوليّةٍ متخصِّصةٍ بنشر ثقافة الحوار والسلام، بعدما عجزت الأمم المتّحدة، وقبلها عصبة الأمم، عن منع الحروب وتحقيق السلام”، مكرِّرًا أنّ “لبنان بمجتمعه التعدُّديّ يُعتبَر نموذجيًّا لتأسيسِ أكاديميّةٍ دوليّةٍ لنشر هذه القيم”، وداعيًا إلى أن تتجسَّد المبادرة التي أطلقها العام الماضي بجعل لبنان مركزًا دوليًّا لحوار الأديان والثقافات والأعراق اليوم باتّفاقٍ” بين الأسرة الدوليّة حولها، الأمر الذي أضفى على لغة الخطاب نكهةً وجدانيّةً خاصّةً لطالما تمنّى اللبنانيّون امتلاك القدرة بالفعل على تقديمها للحضارة الإنسانيّة، لولا ما آلت إليه أحوالهم في حاضرهم المؤلم من انقساماتٍ أفقيّةٍ وعاموديّةٍ لم تعُد تضع مستقبل البلد بأسره على كفِّ عفريتٍ واحدٍ حاقدٍ على وصول الرئيس القويّ إلى سدّة الرئاسة في قصر بعبدا أو متضرِّرٍ من العهد الجديد وحسب، وإنّما في أيدي مجموعةٍ من عفاريتَ غالبًا ما يضعون مصالحهم ومكتسابتهم الشخصيّة فوق مصالح ومكتسبات الوطن، خدمةً لأجنداتٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ، غبَّ الطلب، ودائمًا على حساب لبنان… والخير دائمًا من وراء القصد.