السلايدر الرئيسيتحقيقات
زيارة مايك بومبيو المرتقَبة لبيروت… رسائلُ قاسيةٌ أم جرعةُ دعمٍ من دون طعم؟
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ بينما لا تزال الآراء والتقديرات متباينةً في الأوساط اللبنانيّة ما بين إضفاء صفة الأهمّيّة البالغة على الزيارة التي يعتزم وزير الخارجيّة الأميركيّة مايك بومبيو القيام بها لبيروت أواخر الأسبوع الجاري وما بين التركيز على التقليل من شأنها ووصفِها بالزيارة الاستعراضيّة، ثمّة هامشٌ ضيِّقٌ في الموازاة لا تزال تنتعش فيه الدعوات العقلانيّة إلى التريُّث قبل إطلاق الأحكام المسبَّقة، وذلك على خلفيّة وجهة النظر القائلة بأنّ الرجل لم يكن ليقرِّر اختيار العاصمة اللبنانيّة كآخِرِ محطّةٍ له في جولته الحاليّة التي يبدأها اليوم الثلاثاء من الكويت، والتي تشتمل في غضون الأيّام الأربعة المقبلة على محطةٍ ثانيةٍ في إسرائيل، قبل التوجُّه لاحقًا إلى لبنان، لولا رغبته في نقل خلاصة المباحثات التي سيجريها في المحطّتين الآنفتيْ الذكر، فضلًا عن نتائج مباحثاته التي أجراها خلال جولته السابقة في شهر كانون الثاني (يناير) الماضي على كلٍّ من البحرين والإمارات والسعوديّة وعُمان وقطر ومصر والأردن والعراق، بغية وضعها فوق مائدة المسؤولين اللبنانيّين على شاكلة رسائلَ مباشِرةٍ حول خصوصيّات المصالح الأميركيّة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها “مواجهة أنشطة إيران المخلَّة بأمن المنطقة”، وفقًا لما جاء في بيانٍ رسميٍّ أميركيٍّ بهذا الشأن.
وعلى رغم أنّ لبنان لن يكون مجبرًا بالطبع على التفاعُل مع فحوى الرسائل الأميركيّة المرتقَبة بما يتناسَق مع أيِّ إملاءاتٍ من شأنها أن تخدم توجُّهات البيت الأبيض منفردًا على حساب مبدأ النأي بالنفس عن سياسات المحاور والارتصافات الإقليميّة والدوليّة الذي يلتزم به انطلاقًا من رغبته الأكيدة في إقامة أفضل العلاقات مع كافّة الدول على طول خارطة العالم وعرضها، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ القمّة اللبنانيّة – الروسيّة المقرَّرة يوم السادس والعشرين من الشهر الحاليّ في موسكو بين الرئيسين ميشال عون وفلاديمير بوتين ستتناول بالتأكيد سُبل معالجةِ ملفّاتٍ عديدةٍ من منظورٍ مختلِفٍ تمامًا عن المنظور الأميركيّ، وعلى رأسها أزمة النزوح السوريّ في لبنان، فإنّ ذلك لا يُلغي في الموازاة وجوب الإشارة إلى ما كشفَته صحيفة “الجمهوريّة” اليوم عندما ذكرَت أن مراجعَ ديبلوماسيّةً نصحَت المسؤولين اللبنانيّين بالتريُّث في الحكم على زيارة بومبيو الوشيكة لبيروت، لافتةً إلى أنّ كلّ المعلومات الواردة من واشنطن تتحدَّث عن “زيارةٍ استثنائيّةٍ لا سابق لها”، وإلى أنّ الوزير الأميركيّ “يحمل رسائلَ واضحةً وقاسيةً تركِّز على التوجُّهات الأميركيّة المتشدِّدة ولا يرغب في التفاوض أو النقاش في شكلها والمضمون”، ومنوِّهةً بـ “شخصيّة الرجل وموقعه في تركيبة الإدارة الأميركيّة وهرميَّتها” على أساس أنّه “من أقرب القريبين إلى الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، وأفضل مَن يتحدَّث باسمه ويفهم توجُّهاته ويترجمها”، وموضحةً أنّ “بومبيو قد يذهب في تشدُّده في بعض الملفّات إلى أبعد ممّا يذهب إليه زملاؤه الممسِكون بناصية القرار وآليّة تنفيذه في البيت الأبيض والأمن القوميّ والدوائر التنفيذيّة الأخرى”.
لا شكّ في أنّ الوزير بومبيو هو أرفع مسؤولٍ أميركيٍّ يزور لبنان من بين المسؤولين الآخرين في إدارة البيت الأبيض الحاليّة، ولا سيّما أنّ منزلته في هرميّة السلطة تأتي في المرتبة الرابعة بعد كلٍّ من الرئيس ونائب الرئيس ورئيس مجلس النوّاب، وهي المنزلة التي من شأنها أن تعزِّز صدقيّة ما كشفَت عنه صحيفة “الجمهوريّة” أعلاه بشأن التشدُّد والرسائل الواضحة والقاسيّة، علمًا أن ذلك كلّه لا يمكن أن يعزِّز في الموازاة نزاهة النوايا المبيَّتة في طيّات تلك الرسائل، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ أيَّ محاولةٍ أميركيّةٍ للضغط على المسؤولين اللبنانيّين من أجل إرغامهم على الانصياع لإبرة بوصلة سياسات الولايات المتّحدة ضدَّ إيران بشكلٍ عامٍّ، وعلى حساب “حزب الله” بشكلٍ خاصٍّ، لن تعدو عن كونها في المحصِّلة النهائيّة أكثر أو أقلّ من محاولةٍ تهوُّريّةٍ يائسةٍ تندرج في سياق مبدأيْ “الغموض البنّاء” و”الفوضى الخلّاقة” اللذيْن درجت العادة على أن يعمل الأميركيّون بموجبهما كلَّما استعصَت أمامهم ساحة من ساحات العالم لفرض شروطهم عليها.
وإذا كان سيْل الأمثلة على الميادين التي اختُبِرت فيها نزعات التهوُّر الأميركيّ في العالم له أوّلٌ وليس له آخِر، سواءُ قبل بدء هبَّة ما يُسمّى مجازًا بـ “ربيع العرب” أم بعدها، فإنّ ما يبدو واضحًا في هذه الأثناء هو أنّ استمرار التوافُق الدوليّ والإقليميّ على تجنيب لبنان مخاطر الاحتراق بلهيب صراعات المنطقة، معطوفًا على ما أظهرَته المؤسّسة العسكريّة اللبنانيّة من قدراتٍ فائقةٍ في مجال ممارسة طقوس الأمن الاستباقيّ ضدَّ الإرهاب ومشتقّاته، وكذلك على مواصلة تمسُّك كافّة الأفرقاء السياسيّين بمقوِّمات التسوية التي أفضَت إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة عام 2016، لا بدَّ من أن يعني في نهاية المطاف أنّ البلد لا يزال محصَّنًا بقوّةٍ في مواجهة أيِّ إرهاصاتٍ محتمَلةٍ لأيِّ نزعةٍ تهوُّريّةٍ من شأنها أن تحاول النيْل من تماسُكه، اعتبارًا من الآن وحتّى إشعارٍ آخَر، الأمر الذي لا بدَّ من أن يؤدّي بشكلٍ تلقائيٍّ إلى ترجيح كفّة الآراء والتقديرات التي صنَّفت الزيارة الوزير بومبيو المرتقَبة في خانة الزيارات الاستعراضيّة التي ستقدِّم جرعةَ دعمٍ، من دون طعمٍ، لقوى سياسيّةٍ محلّيّةٍ ما زالت ترفض التجاوب مع واقع الحال القائم على أنّ حضور الماء الروسيّ بكثافةٍ على الساحة الشرق أوسطيّة، عبْر البوّابة السوريّة، يكاد يُبطِل التيمُّم بتراب الآخَرين… والخير دائمًا من وراء القصد.