سلطان البازعي
في قاعة الحفل، امتزجت أنغام الجاز المنبعثة من الساكسفون بإيقاعات السامري الآتية من الدفوف على الضفة المقابلة من المسرح، وفي حفل العشاء أدهش الطهاة السعوديون ضيوفهم بتقديم الجريش مع سمك الناجل، بينما كان عبير الورد والفل الطائفي يعبق في المكان.. المكان بحد ذاته كان مليئاً بـ«متناقضات» متناغمة، التصميم المعماري الحديث للمتحف الوطني بجوار قصر المربع التاريخي والبيوت الطينية المجاورة له والتي استعادت ألقها ودفئها وشموخها.
في هذه الأجواء الملهمة عالية الإيحاء اختارت وزارة الثقافة إعلان استراتيجيتها التي كانت للتو اعتمدت من مجلس الوزراء لتقول إن التوجه الاستراتيجي يرتكز على رعاية الإبداع في فضاء مفتوح منطلقاً من ثقافة عريقة وثرية التنوع.
ولأنها أحدث وزارات الدولة (منذ حزيران 2018) فإنها بشرت بأنها ستكون النموذج الأول لنمط العمل الحكومي الجديد الذي بشرت به «رؤية المملكة 2030» و«برامج التحول الوطني»، فهي لن تكون وزارة تقليدية بالنمط الذي تعودنا عليه ذلك النموذج المثقل بالهياكل المعقدة من وكلاء ووكلاء مساعدين ومدراء عموم ورؤساء أقسام الذين يقومون في الغالب بالعمل نفسه، مما يفاقم البطالة المقنعة، بل إن هذه الوزارة التي بدأت على «بياض» متحررة من أي إرث بيروقراطي سابق ستكتفي في جهاز الوزارة بالعدد الكافي لممارسة دورها التشريعي والتوجيهي الدور المحفز والممكن لقطاعات الثقافة الواسعة، وستترك التخطيط والتنفيذ لعدد من الهيئات المستقلة إدارياً ومالياً يديرها مجالس إدارات يتشكل من المثقفين المختصين في القطاع نفسه، بمعنى أنه لن يأتي أكاديمي مختص في اللغة مثلاً ويفتي في الفنون البصرية أو المسرح أو السينما.
فاجأت الوزارة جمهورها بالإعلان أنها ستهتم وترعى 16 قطاعاً تشكل في مجموعها معظم الاهتمامات والنشاطات الثقافية للجمهور عامة، بما يعني أنها ستكون ثقافة للناس ومن الناس وليست ثقافة النخبة وحدهم، بل إن كل أصحاب القدرات الإبداعية من كل هذه المجالات قادرون، بل إنهم مدعوون للمشاركة في الحراك الثقافي، وقد اعتمدت الوزارة على تعريف المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) للثقافة بأنها: «هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها «الإنسان» باعتباره عضواً في المجتمع»، وهذا تعريف يوسع ضيقاً، إذ إنه يكسر احتكار المشهد الثقافي في أطر ضيقة هي في الواقع كانت إجراءات حمائية للأبراج العاجية التي يتحصن بها بعض المثقفين ويحتكرون المشهد الثقافي، على رغم أن كثيراً منهم لا يتوافر لهم القدر الكافي من الإبداع.
وفي هذا يقول وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله الفرحان: «إن تطوير النظام الثقافي وتمكين قطاع الثقافة من تحقيق إمكاناته، هي عملية بناء مستمرة، وليس حدثاً يتم إنجازه لمرة واحدة. ندرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتق «الوزارة» ونعلم بأن الأهداف كبيرة ولا يمكن تحقيقها بين عشية وضحاها، لكننا ملتزمون بهذه المهمة، وقد صممنا رؤيتنا وتوجهاتنا لإزالة المعوقات، والحد من البيروقراطية، وتمكين المبدعين من ممارسة إبداعهم»، وهذه العبارات بقدر ما فيها من التواضع أمام حجم المسؤولية فإن فيها من وضوح الرؤية والعزم على تحقيقها الأمر الذي يبعث على التفاؤل بسلامة النهج وبأن المستقبل القريب يحمل بشائر حراك ثقافي شامل يحفز قدراً كبيراً من الإبداع، بما يجعل الثقافة عنصراً أساسياً ليس في جودة الحياة فحسب، وإنما في زيادة الناتج القومي باعتبار الثقافة قطاع ابتكار لمنتج قابل للاستهلاك المحلي وللتصدير بلغة الاقتصاد.
ولم تكتف الوزارة بالتبشير بهذا النمط المرن في الأداء للمؤسسات الثقافية، وإنما أعلنت عن 27 مبادرة نوعية كثير منها لم تكن الأوساط الثقافية تفكر بإمكان تحقيقها، ولعل من أبرزها «صندوق التنمية الثقافية»، وبرنامج «التفرغ الثقافي»، و«مجمع الملك سلمان للغة العربية»، و«بيوت الثقافة في المحافظات»، وفرقة «المسرح الوطني»، و«الابتعاث الثقافي»، و«برنامج الترجمة من وإلى اللغة العربية»، و«مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي»، و«أكاديميات الفنون».. وغيرها.
وهذه المبادرات تعني أن «الهيئات» الجديدة التي ستنشأ بمجالسها المختصة، ستجد أمامها برنامج عمل حافل من اليوم الأول لتنفيذ هذه المبادرات، كما تعني أنها ستكون أمام تحدي ابتكار برامج جديدة تلبي حاجات القطاع الذي تعمل لأجله، كما ينتظر من هذه «الهيئات» أن تعمل على تحفيز كل مؤسسات المجتمع الحكومية والخاصة وغير الربحية إلى القيام بدورها في إثراء الحراك الثقافي، وخلق منتجات مبتكرة من الثروة الكبيرة والمتنوعة التي تختزنها المملكة في تراثها وفي قدرات شبانها وشاباتها.
ولعل من المناسب هنا الإشارة إلى تحرك إيجابي بادرت به واحدة من أكبر شركاتنا الوطنية وهي الشركة السعودية للكهرباء التي نظمت من بداية هذا الأسبوع مهرجاناً ثقافياً شاملاً، فاجأت به جمهورها، واختارت الشركة للمهرجان اسم «نور.. الثقافة والفنون»، في إشارة إلى عزمها القيام بدور تنويري في المجتمع وليس فقط في إنارة المدن والقرى ومد مواقع الإنتاج الصناعي والزراعي والتجاري بالطاقة.
مثل هذا الدور الذي أكدت الشركة أنه يتماشى مع توجه الاستراتيجية الثقافية التي أعلنتها وزارة الثقافة، يطرح سؤالاً كبيراً عن غياب بقية الشركات عن ممارسة مسؤوليتها الاجتماعية في تبني مبادرات كهذه رغم الأرباح الكبيرة التي تحققها مستفيدة من قوة ومتانة الاقتصاد السعودي.
«ثقافتنا.. هويتنا» هو شعار المرحلة المقبلة، وهو شعار يعني أن كل فئات المجتمع باختلاف اهتماماتها مدعوة للمشاركة، فـ«الثقافة هي من الناس وللناس».
* كاتب سعودي.
@salbazie
الحياة