أقلام مختارة

السياحة في مدن الأشباح

رياض عصمت

تمتلك الأشباح سحرا سياحيا قويا في الولايات المتحدة قد لا يستوعبه كثيرون في بلدان العالم النامية، وربما سمعوا به ولم يأخذونه على محمل الجد أو يصدقونه. نجد عددا من مدن الجنوب الأميركي تحظى بهذا السحر الجاذب لأفواج عديدة من الزوار، إذ تشتهر بأن كثيرا من منازلها وفنادقها مسكون. إذن، فإن إحدى الأمور الجاذبة للسياحة الداخلية هي قصص الأشباح التي يروج لها، فتستقطب السياح بحثا عن تلك الإثارة المحرضة للخيال، سواء كانوا مصدقين مؤمنين أم متشككين منكرين.

زرت في صيف مضى مدينتين أميركيتين اشتهرتا بقصص الأشباح. أولى المدينتين هي سافانا في ولاية جورجيا، الولاية التي تحمل نكهة الجنوب الأميركي، والمشهورة بفاكهة الدراق كما فلوريدا مشهورة بالبرتقال. بالتأكيد، تمتلك سافانا سحرا جماليا يتجاوز حكايات الأشباح التي تزخر بها عدة فنادق فيها بشكل خاص، وتباع “سوفونيراتها” في مخازن انتشرت على حافة النهر الكبير.

وأذكر بالأخص فيها محل السندويش الشهير “زونزي” ومحل الآيس كريم “ليوبولدز” الذي يملكه ممثل ومنتج سينمائي معروف. إذا كان مطبخ سافانا مشهورا بالدجاج واللحم، فإن مطبخ تشارلستون يعرف بالأسماك والمأكولات البحرية. تقع تلك المدينة الجميلة في ولاية ساوث كارولاينا، وفيها سوق شعبي رائع وضخم يحفل بالصناعات اليدوية، ويؤمه السياح من كل حدب وصوب. دون التطرق بالذكر الصريح إلى أسماء الفنادق تجنبا للدعاية، أود أن أشيد بالمستوى الراقي من النظافة والأناقة في الطعام والخدمات التي تمتع بها كلا الفندقين اللذين حللنا فيهما.

بينما كان فندق سافانا ذا طابع فكتوري المعمار، اتسم فندق تشارلستون بغرابة معماره الهندسي الغريب، إذ أنه كان في الأصل مستودعا تم تحويله إلى فندق راق، فظلت العوارض الخشبية الضخمة تسند أسقفه المائلة، وتتخلل أجنحته الفسيحة، وبالأخص ذات الطابقين مثل التي أقمنا فيه.

ارتبط فندق سافانا بقصة شابة في مقتبل العمر تدعى آنا، كانت تعمل هناك نادلة في أواخر القرن السابع عشر، وتحلم بالاقتران بعريس غني. تعرضت تلك الشابة إلى خداع زائر ألماني خلال إقامته في الفندق، فبثها عواطفه ووعدها بالزواج، ثم ما لبث أن اختفى فجأة تاركا حبيبته المخدوعة وقد بدت عليها علائم الحمل. سرعان ما ألقت آنا بنفسها من نافذة غرفتها الصغيرة في الفندق وانتحرت.

منذ ذلك الزمن السحيق، يشاع أن أمورا غريبة ظلت تدور في أرجاء ذلك الفندق الشبيه بأروقته وسلالمه المعقدة بالمنازل التي يتخيلها المرء وهو يقرأ روايات أغاثا كريستي المشوقة. تعرض الفندق لحريق غامض، ثم رمم ليعود كما كان وأجمل، وإن بقيت الإشاعات حية عن كون شبح تلك الشابة المنتحرة ذات الثوب الأبيض المزين بالدانتيللا والشعر الأسود الفاحم الطويل المنسدل على ظهرها يحوم في أرجائه في عتمة الليل بسبب ما لحق عليها من ظلم أدى إلى مصرعها.

يقال في كتيب يوزع على نزلاء الفندق إن عدة أشخاص اشتكوا من فقدان غريب لبعض حاجاتهم دون أن يملك أحد تفسيرا منطقيا لهذا. سواء صدق القراء ما أرويه أم لا ـ خاصة وأنني أنا نفسي متشكك فيه ـ فقدنا لدى نزولنا في إحدى غرف الفندق ورقة تعليمات الفندق التي تحوي كلمة سر الإنترنت، فبدأنا نبحث عنها في جميع أرجاء الغرفة دون فائدة، حتى يئسنا تماما من العثور عليها. جلسنا لنستريح دقائق قبل الانطلاق خارجين لتناول العشاء، ثم نهضنا من أماكننا، فإذا بالورقة موجودة على الأريكة التي كانت تجلس عليها زوجتي، والتي فتشناها جميعا أكثر من مرة دون أن نعثر على الورقة المفقودة! تبادلنا المزاح حول كون شبح الفتاة المتوفاة أراد الترحيب بنا بمزحة عملية!

ذهبت وزوجتي نفتش بين الأروقة عن الغرفة التي انتحرت الشابة قبل قرون بإلقاء نفسها من نافذتها درء للفضيحة، بعد أن اعتذرت إدارة الفندق عن إنزالنا فيها لأنها محجوزة من قبل أب وولديه الشابين، الذين جاؤوا معهم بمعدات تصوير ليلي لرصد الأنشطة غير الطبيعية paranormal activities التي قد تحدث في بهيم الليل. حين وصلنا إلى باب الغرفة المذكورة، شعرت وزوجتي بصدمة الارتياع إذ التفتنا فظهر لنا وسط عتمة الغروب هيكل فتاة ذات شعر أسود طويل ترتدي فستانا أبيض موشى بالدانتيللا وهي تطل عبر ستائر النافذة وكأنها تهم بالانتحار. لم يكن ذلك شبح الصبية الراحلة قبل قرون بالطبع، وإنما كان دمية وضعتها إدارة الفندق للإثارة. حين عدنا ليلا من العشاء شاهدنا هيكل الدمية يطل من النافذة، وتذكرنا اللقطة الشهيرة من فيلم هتشكوك “سايكو”.

مثلما شاعت قصة الشابة المنتحرة بسبب ما تعرضت له من خديعة، شاعت قصص أشباح أخرى تسكن فنادق وبيوت ومواقع مختلفة في أرجاء سافانا. تتناول تلك القصص شخصيات أشباح متباينة في أعمارها وطبقاتها الاجتماعية وأهوائها ومزاجها، أذكر من بينها شبح جنرال عجوز توفيت ابنته بمحض الخطأ بعد أن تمردت على نهي أبيها العسكري الصارم عن اللعب مع أطفال يعتبرهم دون طبقتها الاجتماعية، فظل شبح الجنرال الغاضب يتراءى للأطفال حتى يومنا الراهن وهو يطاردهم كأنه يريد أن ينتقم منهم لمصرع ابنته غير المقصود، الذي تسبب هو نفسه فيه.

تتردد قصة مؤثرة أخرى عن طفل يتيم لا يعرف أحد هوية والديه. كان الطفل مصابا بمرض الجدري الذي خلف على وجهه بثورا حتى تجنبه الناس ونفروا من منظره، فلم يجد وسيلة للعيش سوى أن يقيم حارسا لتلك المقبرة. ذات صباح، عثر الناس على جثتي صبيتين مقتولتين في المقبرة بعد أن جرى الاعتداء عليهما، وسرعان ما توجهت أصابع الاتهام إلى رينيه، الذي أقسم أنه بريء ولا يعرف عن الأمر شيئا. جرت المحاكمة على عجل، وأدين الصبي الصغير زورا وبهتانا بسبب شكله المنفر ووضعه الاجتماعي المزري، فأعدم شنقا بالرغم من براءته من تلك الجريمة الشنعاء التي لم يعرف فاعلها. منذ ذلك الحين، يشاع أن شبح رينيه يحوم حول تلك المقبرة ليلا.

لم يظهر شبح رينيه لابني الشاب وقريبه خلال جولتهما حول سور المقبرة المغلقة عند منتصف الليل، لكنهما عادا لاهثين وقد علا الشحوب وجهيهما. رويا لنا كيف خطر لابني وهو يسير مع صاحبه تحت المطر أن ينادي بصوت عال باسم “رينيه” ممازحا. فجأة، سمع الاثنان وقع خطوات تتبعهما. التفتا، فلم يريا أحدا. عجلا الخطا، فتسارع وقع الخطوات وراءهما. نظرا ثانية إلى الوراء، فلم يريا أحدا في الشارع المعتم المبلل بالمطر. انطلق الاثنان راكضين يسابقان الريح للاحتماء بالفندق. ضحكت وزوجتي وابن حماي عليهما، وعزونا صوت الخطوات إلى قطرات المطر المتساقطة من أشجار سافانا العجيبة.

في صباح اليوم التالي، عندما خرجنا للتجوال في المقبرة ذاتها، أوضحنا لهما سبب ذعرهما من سماع صوت خالاه خطوات شبح يتبعهما، إذ أن أشجار سافانا غريبة الشكل فعلا، فهي أشجار ذات أشكال شبحية، إذ تتدلى منها نباتات فطرية منسدلة لا شك أن منظرها في الليل والمطر يقطر منها كالدموع يثير في قلوب أشجع القلوب الرهبة والهلع.

هل حامت الأشباح حولنا حقا في ليلة مثيرة في سافانا، أم أن تلك كانت مجرد رؤى صورها لنا خيالنا تحت وطأة إشاعات سياحية عن مدن اشتهرت بأبنيتها المسكونة بالأشباح؟

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق