أقلام مختارة

نداء تونس.. من ينقذ صورة الحزب وإرث الرئيس

الحبيب الأسود

الحبيب الأسود

كل محاولات ترميم حزب حركة نداء تونس تبدو فاشلة، وحتى المؤتمر الانتخابي الذي عوّل عليه الندائيون وفي مقدمتهم الرئيس الباجي قائد السبسي قاد الحزب إلى نفق جديد بات من الصعب الخروج منه قبل أشهر قليلة من الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

النداء لم يكتف بتدمير نفسه من الداخل، وإنما أعطى صورة سيئة عن العمل الحزبي والنخب السياسية في بلد وصل عدد أحزابه إلى 216 حزبا، فمنذ تأسيسه في العام 2012 على يد قائد السبسي، كان قد حكم على نفسه بأن يكون مجرد جبهة انتخابية لمرّة واحدة فقط، بسبب محاولته الجمع بين متناقضات فكرية وعقائدية، ثم بين قوى انتهازية تبحث عن مساحة للتموقع في المشهد الجديد الذي أفرزته الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في يناير 2011.

وإذا كان نداء تونس قد فاز بانتخابات العام 2014، فلأنه رفع شعارات راديكالية في وجه الإسلام السياسي وخاصة حركة النهضة، التي كانت قد حكمت البلاد بعد انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011، وقادت الدولة والمجتمع إلى حالة من التصادم ما أدى إلى اتساع رقعة الإرهاب والتطرف إلى حد الاغتيال السياسي الذي استهدف زعيمين كبيرين من زعماء المعارضة اليسارية وهما شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وانتشار خطاب الحقد والكراهية ودعوات الإقصاء والإلغاء في ظل واقع إقليمي كان يصب آنذاك في اتجاه التمكين للإسلاميين، وخاصة لجماعة الإخوان المتحالفة، موضوعيا، مع تنظيم القاعدة في أكثر من بلد عربي.

استطاع الباجي قائد السبسي بما يملك من كاريزما وقدرة خطابية وخبرة سياسية تعود إلى عقود طويلة، أن يبرز كوريث للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ومدافع شرس عن الدولة المدنية في وجه تغوّل النهضة وحلفائها، فأعاد الأمل إلى التونسيين، وخاصة إلى المرأة التي كانت تخشى على ما تحقق لها من قبل دولة الاستقلال من أن يطاح به في زحمة الدعوة للانقلاب على الدولة الحديثة وإنجازاتها الاجتماعية.

بعد أن وصل إلى قصر قرطاج، كان قائد السبسي يطمح إلى أن يكون بورقيبة آخر، ولم يستسغ تحديد مسؤولياته في إطار ضيق من قبل دستور العام 2014، وكان أكبر أخطائه أن أدخل نجله حافظ إلى دائرة المسؤولية في نداء تونس، لكن يبدو أنه كان مطمئنا أكثر من اللازم إلى أن توافقاته مع راشد الغنوشي في اللقاء الباريسي في أغسطس 2013 والذي رعته أطراف دولية من بينها فرنسا والجزائر والولايات المتحدة، كانت ستضمن تقاسم السلطة بين أسرتين لا فقط بين رجلين، وما زاد في تعميق هذا التوجه أن حركة النهضة أوهمت حافظ بأنها ستتعامل معه كما تتعامل مع والده، بل وأصبح قياديوها يطلقون عليه لقب السيد الرئيس، وكانوا وراء تنظيم لقاءات له مع الرئيس التركي ومع أمير قطر كحليف موثوق به.

تناسى الرئيس قائد السبسي وعوده لناخبيه بالتصدي للنهضة والإسلام السياسي، وتراجع حضور نداء تونس بسبب التصدعات التي ضربته والتشققات التي أفقدته أغلب قياداته الفعلية، ولم يجد حافظ إلى جانبه إلا من تغلب عليهم نزعة الانتهازية، فالابن بات يستثمر في اسم والده، وأتباعه باتوا يستغلون قربهم منه لتحقيق مصالحهم، وفوق كل ذلك لم يستطع نداء تونس تكوين مؤسسات أو تنظيم انتخابات قياداته بشكل ديمقراطي نزيه، ولم يفلح في إلزام مرشحيه للسلطة بالانضباط والالتزام، وهو ما يتضح اليوم، فرئيس الحكومة، يوسف الشاهد، المرشح من قبل الرئيس قائد السبسي تمرد عن الحزب والرئيس واتجه لتأسيس حزب جديد، وحتى وزراء نداء تونس اختاروا الكراسي وأعلنوا الولاء لرئيس الحكومة، فالحزب الذي جاؤوا منه بدا بالنسبة لهم منتهي الصلاحية.

كان الرئيس قائد السبسي، يجيب في كل مرة من يسأله عن الوضع الكارثي لحزبه، بأن الحل في المؤتمر الانتخابي الذي تأخر سبعة أعوام عن موعده المفترض، وبعد مخاض عسير جاء المؤتمر لينتظم في مدينة المنستير في ذكرى وفاة الحبيب بورقيبة في السادس من أبريل، ولكن النتائج لم ترق لحافظ قائد السبسي، فنجل الرئيس لا يزال يطمح إلى دور سياسي في المرحلة القادمة، والمقربون منه أقنعوه بأن هذا الدور لا يكون إلا من صدارة المسؤولية في الحزب.

انقلب حافظ على مؤتمر المنستير وقرر استئنافه بشكل عبثي، بعد رفض الطعون التي تقدم بها فريقه، ليتم انتخابه رئيسا للجنة المركزية لنداء تونس، في ذات الوقت الذي كان فيه الشق الثاني يجتمع في مدينة الحمامات لتوزيع المسؤوليات وفق نتائج المؤتمر بصيغته الأولى، وهي النتائج القانونية بحسب رئيسة المؤتمر، ليتم انتخاب سفيان طوبال رئيسا للجنة المركزية ومحمد عادل الجربوعي رئيسا للمكتب السياسي وعبدالعزيز القطي سكرتيرا عاما للحزب.

دخل حافظ قائد السبسي هذه المرة في مواجهة قانونية مع أقرب المقربين إليه ومن كانوا يقفون إلى جانبه ضد كل الانتقادات التي تلاحقه، وخاصة سفيان طوبال رئيس الكتلة البرلمانية التي كانت الأولى بعد انتخابات 2014 بـ86 نائبا لتصبح اليوم الثالثة بـ39 نائبا، بينما أصبحت حركة النهضة تتمركز في الصدارة ومن ورائها كتلة حليفها الجديد حزب “تحيا تونس” المحسوب على رئيس الحكومة.

والواقع أن القيادة الجديدة المنتخبة لن تساعد نداء تونس على استعادة انتصار الماضي ولا على تحقيق أي نتائج مهمة في المستقبل، ولن تعطي أي أمل لمن غادروا الحزب حتى يعودوا إليه، وإنما ستزيد من زحف من تبقى في مراكز المسؤولية وخاصة في الحكم المحلي، نحو حزب “تحيا تونس”.

الرئيس قائد السبسي حسم أمره في اتجاه عدم الترشح لرئاسيات 2019، وسيكون من أبرز الداعمين لترشيح رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وهناك دعم إقليمي ودولي لهذا التوجه، كما أن حركة النهضة تبدو مرحبة به، قدر عملها على أن تمسك بمقاليد رئاسة الحكومة في حال فوزها في التشريعيات، فالرئيس قائد السبسي لا يريد للدبلوماسية التونسية التي يعود أمرها إلى رئاسة الجمهورية، أن تسقط بين يدي رئيس من خارج الإطار البورقيبي وتقاليد دولة الاستقلال، خصوصا وأن تونس هي الرئيسة الحالية للقمة العربية، وستستقبل قمة الفرنكوفونية العالمية في يناير 2020، وتستعد لتولي عضوية مجلس الأمن، وتطمح إلى تحسين علاقاتها مع دول محور الاعتدال العربي وعلى رأسه المملكة العربية السعودية ومصر.

لكن هذا الموقف من الرئيس قائد السبسي، يجب أن لا يخفي عنه أن هناك حالة تراوح بين الملهاة والمأساة في نداء تونس، وهو قادر عندما يريد أن يتدخل بقوة للدعوة إلى تجاوز ما حدث في المنستير والحمامات السبت الماضي، وعقد اجتماع جديد لأعضاء اللجنة المركزية يجمع بين طرفي النزاع ويتم خلاله انتخاب قيادة جديدة تكون قادرة على تجاوز ما بات عليه الحزب من وضعية الانشطار الداخلي أو الانتحار الذاتي.

الرئيس قائد السبسي يمكن أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من شتات حزب ولد كبيرا، ثم اضمحل حتى لا يكاد يُرى، لأن قرار الإنقاذ سيساعد كذلك على إنقاذ المشهد السياسي في البلاد، وعلى إنقاذ صورة الرئيس نفسه في الداخل والخارج، حتى لا يقال أسس حزبا ليجعل منه سلّما ليحكم، ولما حكم سقط السلّم وانهار البناء.

العرب اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق