أقلام مختارة

كاتدرائية نوتر دام دو باريس المحترقة: درس فرنسي بالانتصار

د.جمال الشلبي

د.جمال الشلبي

 

بعيداً عن مواقف فرنسا العربية هنا أو هناك غير المتوافقة مع هذه الدولة أو تلك، لا يمكن لأي إنسان عادي يملك قليل من العقل والقلب والروح الإنسانية المحايدة إلآ ان يتأثر بما جرى لكاتدرئية نوتر دام دو باريس التي تمثل أجمل ما قدمه الفن المعاري القوتي منذ العام 1163، وأجمل ما قدمه فيكتور هيغو من رواية حملت اسم” احدب نوتردام” عام 1831″ تيمنناً بهذا المكان المقدس دينياً، وتاريخياً، ومعمارياً.

بالتأكيد، ان هذا الحدث  المهم والمحزن بآن واحد لم يكن متوقعاً، خاصة وأن عمليات التجديد والترميم قائمة منذ سنوات بعدما نشرت صحيفة النييورك تايمز في عام 2017 تقريراً يشير إلى الوضع المأساوي الذي وصلت فيه حالة نوتردام من تعب التاريخ واليئة؛ أي أنها كانت ضمن تصورات العقل العقل السياسي والفني لعاصمة الفن والجمال والنور لكي تكون في أوج رونقها وجاذبيتها. وقد تعرضت هذه الكاتدرائية التي يزورها يوميا30 الف زائر مؤمن، ومحب للفن، ومحب للإسطلاع للكثير من الفترات العصيبة والصدمات التاريخية والسياسية القاتلة كان أهمها عندما قام الثوار الفرنسيون بتدمير 28 تمثالاً أثرياً لملوك داخل الكاتدرائية بسبب كراهيتهم للملكية والارستوقراطية، واعتبار الكاتدرائية رمزاً للأرستقراطية التي قام الشعب بالثورة عليها، ولم ينجُ من التدمير سوى تمثال لمريم العذراء.

و على كل حال،  وعلى الرغم من حالة الحريق المدمرة للكثير من أجزاء الكنيسية إلا أن  ركائزها وقواعدها – كما يؤكد التقنيين من المعماريين الفرنسيين- ما زالت سليمة إلى حد كبير، ويزداد الأمل لدى محبي نوتردام دو باريس بأن تعلن انتصارها على الدمار والحريق والموت بعودة روجها الباريسية لها بفضل 700-1000 مليار يورو خصصت – إلى الآن- من جانب الدولة والشركات الكبرى التي على رأسها “شركة لوريال العالمية” التي خصصت 200 مليون يور لإعادة ترميمها وبنائها وإعادة ألقها وحضورها البهي خلال الـ 10-15عاماً القادمة إذ أن هناك الكثير من أصحاب الذوق الرفيع، والرؤية الإنسانية العميقة في هذا العالم سينتظر بشوق، وشغف، وفرح عودتها!.

بالنسبة لي، كشخص كعربي بعيد عن الحدث – وان كنت أشعر بأنه يمس قلبي وروحي، وأنا الذي كنت أسكن في مكان لا يبعد عنه أكثر من كيلو واحد{ لوكاردينال لوموان}، وأمر شبه يومياً ذاهباً لجامعتي { باريس2- السوروبون}، أو لأخذ قهوة من مقاهيها المنتشرة على جانبي نهر السين المشهور- تابعت ردود الفعل على القنوات الفرنسية من مؤمنين مسيحيين، وغير مؤمنين، وعلمانيين، نساء ورجال، وشباب وكبار السن، فلاحظت كم هذا الشعب كبير وعريق في مواجهة الأزمات والتهديدات، إذ أن الكل يؤكد بثقة بأن ما حدث ما ماهو إلا “سكين” في خاصرة الأمة ولكنها لن تقتلها، وأنها أزمة كبقية الأزمات السابقة واللاحقة، وانه في المستقبل القريب ستعود الكاتدرائية إلى سابق عهدها قبل 15 نيسان/ أبريل 2019 المشؤوم، لا سيما في ظل التكاتف الرسمي والشعبي، والديني والعلماني من أجل المحافظة على أحد أركان “روح الأمة” الفرنسية: نوتردام دو باريس.

باختصار، كاتدرائية نوتردام دو باريس ستطفئ كل النيران والدمار والانهيار هنا وهناك، عبر قلوب ودعوات كل أولئك الذين يعشقون الفن، والجمال، والإنسان بتجلياته المختلفة، وباختلاف فضائاته الجغرافية الممتدة.

أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الهاشمية

رأي اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق