عثمان ميرغني
ليس هناك أكثر من السودانيين خبرة فيما تعنيه دولة «الإخوان». خبروها ثلاثين عاماً وعرفوا ما تعنيه من حيث الممارسة والتطبيق، لا الشعارات الفارغة. دفعوا ثمناً غالياً لكي يكتشفوا مخبر الحركة الإسلامية، وراقبوا كيف أنها تمكنت خلال ثلاثين عاماً من الحكم المتلون والشرس من بناء دولتها العميقة، التي سيستغرق تفكيكها وقتاً وجهداً وتبصراً.
من السهل أن نفهم بهذه الخلفية لماذا يتريث السودانيون لمعرفة توجهات الانقلاب الذي جرى باسم ثورتهم، ولماذا تثار الكثير من الأسئلة حول الخطوات التي اتخذت أو لم تتخذ من قبل المجلس العسكري، وحول التأخير في الكثير من الإجراءات التي تستهدف تفكيك النظام «السابق». وكما يقول المثل الشعبي إن «من لدغته حية يخاف من الحبل»، والسودانيون لُدغوا من «الإخوان» في انقلاب عام 1989 الذي راوغ بمكر لإخفاء حقيقته الإخوانية، وخدع الناس بلعبة «اذهب إلى القصر رئيساً… وأذهب أنا إلى السجن حبيساً» التي بمقتضاها ذهب الدكتور حسن الترابي إلى السجن مع بقية القيادات السياسية التي اعتقلت بعد الإطاحة بالنظام الديمقراطي، بينما ذهب العميد (وقتها) عمر البشير إلى سدة الحكم رئيساً حليقاً قبل أن يكشف عن هويته الإخوانية بعد أن تمكن النظام من مقاليد السلطة.
من مصلحة السودان، بل المنطقة كلها، أن يتمكن السودانيون من تفكيك دولة «الإخوان» العميقة ويكشفوا كل مفاصلها، وأذرعها وامتداداتها بميليشيات الظل التي شكلتها، والشركات الواجهة التي أقامتها، وشباكها التي نشرتها في الداخل والخارج. فعلى مدى سنواتهم في الحكم استكمل مسؤولو الحركة الإسلاموية خططهم التي بدأوها منذ أيام العمل السري والعلني لبناء دولتهم الخفية، فاخترقوا المؤسسة العسكرية والشرطة، وفرضوا سيطرتهم على جهاز الأمن الذي سخّروه تماماً لخدمة مصالحهم وحماية نظامهم، وحوّلوه إلى جهاز للبطش وإرهاب الشعب بممارسة التعذيب في «بيوت الأشباح» والمقار الرسمية. لم يكتفوا بذلك، بل أنشأوا ميليشياتهم وكتائب الظل من الدفاع الشعبي إلى الأمن الشعبي والطلابي لتكون أجهزة بطش وقوات عقائدية موازية للقوات النظامية.
في إطار سياسات الإقصاء التي مارسوها شهد السودان أكبر عمليات فصل تعسفي وإحالات للتقاعد في الخدمة المدنية والمؤسسة العسكرية تحت لافتة «الصالح العام»، حتى بلغ أعداد المتضررين في عهد نظامهم قرابة 350 ألف شخص، وفقاً للجنة القومية للمفصولين. وفي موازاة ذلك وضعوا عناصرهم في مختلف المواقع والمناصب، مقدمين الولاءات على الكفاءات ليكون الثمن انهياراً مريعاً في الخدمة المدنية وتردياً في العمل والخدمات.
سياسة التمكين لم تقتصر على ذلك، بل امتدت للسيطرة على مفاصل الاقتصاد وعالم المال والأعمال، وهكذا أنشأوا الشركات المملوكة لعناصرهم وباعوا لهم مؤسسات ومشاريع الدولة، بينما ضيقوا الخناق على رجال الأعمال الآخرين. كل ذلك سهل لانتشار فساد غير مسبوق استنزف موارد الدولة، وهدّ اقتصادها، وأفلسها إلى حد عجزت فيه المصارف عن توفير السيولة.
هذه الدولة العميقة التي بناها نظام الحركة الإسلاموية لديها شبكة مصالح واسعة تدافع عنها، وواهم من يعتقد أنها استسلمت وسلمت الحكم بهذه السهولة. فهناك الكثير من المؤشرات على أنها لا تزال ناشطة حتى اللحظة، واستمرار الغموض والبطء في قرارات المجلس العسكري الانتقالي وخطواته لملاحقة واعتقال قيادات النظام، وفي وضع اليد على دور حزبه، ومقار شركاته وميليشياته، وفي ترتيبات نقل السلطة لحكومة مدنية، لا يثير التساؤلات ويغذي شكوك المتشككين فحسب، بل يساعد الذين يريدون تقويض الثورة. أمام هذا الوضع ليس مجدياً أن يكتفي الناس بالشكوى من المجلس العسكري وبإثارة الشكوك حول بعض خطواته، بينما القوى السياسية والمهنية تتحرك أيضاً ببطء غير مفهوم وغير مبرر تاركة فراغاً خطيراً.
كان يفترض وفقاً لكل الاستعدادات والترتيبات السابقة أن تكون قوى «الحرية والتغيير» جاهزة لعملية نقل السلطة إلى حكومة مدنية، وأن يكون هناك توافق على الأسماء المرشحة لتولي المسؤوليات في الفترة الانتقالية بحيث تعلن هذه الحكومة وكل الترتيبات الأخرى من دون إبطاء بعد إذاعة بيان تنحية البشير. فالتأخير الذي حدث بدا محيراً للشارع، ولا سيما أنه لم يكن مطلوباً من القوى السياسية أن تحصل على إشارة أو موافقة من المجلس العسكري لتقديم حكومتها الانتقالية. زمام المبادرة كان في يد «قوى الحرية والتغيير» المسنودة بالثورة الشعبية، وكان في مقدورها وضع كل ترتيباتها بما في ذلك تشكيلة حكومة مدنية متفق عليها أمام المجلس العسكري الذي لم يكن سيعترض عليها أمام الشارع المعبأ والجماهير المعتصمة أمام قيادة القوات المسلحة. ولو كانت هذه القوى عجّلت بإعلان خطواتها وسمّت الحكومة الانتقالية، لما كانت في حاجة إلى الطلب من المجلس إصدار قرارات وإجراء تعديلات في الجهاز القضائي، وفي أجهزة الإعلام، أو إصدار توجيهات إلى السلطات المالية أو التنفيذية.
التأخير عدا عن أنه يعزز سلطات المجلس العسكري الذي تطالب هذه القوى بأن يقلص ويُضَمّ إليه مدنيون بحيث يكون مجلس سيادة انتقالياً، فإنه يتيح الفرصة للدولة العميقة لكي تكثف نشاطها الهادف لتقويض الثورة أملاً في إعادة إنتاج نظامها. فكل متابع لما يدور في الساحة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، يلمس الكم الهائل من الشائعات والأخبار المدسوسة الرامية للتشويش وإضعاف تماسك القوى السياسية والمهنية والشعبية. والأمر لا يتعلق بماكينة الشائعات فقط، بل بكل مفاصل العمل في الدولة وفي الاقتصاد التي لا تزال إما في قبضة الدولة العميقة أو لديها القدرة على التأثير فيها.
الوضع لا يحتمل البطء الذي نراه اليوم، فكل يوم يمر يستنزف من طاقة الثورة ويقوي المتربصين بها.
من السهل أن نفهم بهذه الخلفية لماذا يتريث السودانيون لمعرفة توجهات الانقلاب الذي جرى باسم ثورتهم، ولماذا تثار الكثير من الأسئلة حول الخطوات التي اتخذت أو لم تتخذ من قبل المجلس العسكري، وحول التأخير في الكثير من الإجراءات التي تستهدف تفكيك النظام «السابق». وكما يقول المثل الشعبي إن «من لدغته حية يخاف من الحبل»، والسودانيون لُدغوا من «الإخوان» في انقلاب عام 1989 الذي راوغ بمكر لإخفاء حقيقته الإخوانية، وخدع الناس بلعبة «اذهب إلى القصر رئيساً… وأذهب أنا إلى السجن حبيساً» التي بمقتضاها ذهب الدكتور حسن الترابي إلى السجن مع بقية القيادات السياسية التي اعتقلت بعد الإطاحة بالنظام الديمقراطي، بينما ذهب العميد (وقتها) عمر البشير إلى سدة الحكم رئيساً حليقاً قبل أن يكشف عن هويته الإخوانية بعد أن تمكن النظام من مقاليد السلطة.
من مصلحة السودان، بل المنطقة كلها، أن يتمكن السودانيون من تفكيك دولة «الإخوان» العميقة ويكشفوا كل مفاصلها، وأذرعها وامتداداتها بميليشيات الظل التي شكلتها، والشركات الواجهة التي أقامتها، وشباكها التي نشرتها في الداخل والخارج. فعلى مدى سنواتهم في الحكم استكمل مسؤولو الحركة الإسلاموية خططهم التي بدأوها منذ أيام العمل السري والعلني لبناء دولتهم الخفية، فاخترقوا المؤسسة العسكرية والشرطة، وفرضوا سيطرتهم على جهاز الأمن الذي سخّروه تماماً لخدمة مصالحهم وحماية نظامهم، وحوّلوه إلى جهاز للبطش وإرهاب الشعب بممارسة التعذيب في «بيوت الأشباح» والمقار الرسمية. لم يكتفوا بذلك، بل أنشأوا ميليشياتهم وكتائب الظل من الدفاع الشعبي إلى الأمن الشعبي والطلابي لتكون أجهزة بطش وقوات عقائدية موازية للقوات النظامية.
في إطار سياسات الإقصاء التي مارسوها شهد السودان أكبر عمليات فصل تعسفي وإحالات للتقاعد في الخدمة المدنية والمؤسسة العسكرية تحت لافتة «الصالح العام»، حتى بلغ أعداد المتضررين في عهد نظامهم قرابة 350 ألف شخص، وفقاً للجنة القومية للمفصولين. وفي موازاة ذلك وضعوا عناصرهم في مختلف المواقع والمناصب، مقدمين الولاءات على الكفاءات ليكون الثمن انهياراً مريعاً في الخدمة المدنية وتردياً في العمل والخدمات.
سياسة التمكين لم تقتصر على ذلك، بل امتدت للسيطرة على مفاصل الاقتصاد وعالم المال والأعمال، وهكذا أنشأوا الشركات المملوكة لعناصرهم وباعوا لهم مؤسسات ومشاريع الدولة، بينما ضيقوا الخناق على رجال الأعمال الآخرين. كل ذلك سهل لانتشار فساد غير مسبوق استنزف موارد الدولة، وهدّ اقتصادها، وأفلسها إلى حد عجزت فيه المصارف عن توفير السيولة.
هذه الدولة العميقة التي بناها نظام الحركة الإسلاموية لديها شبكة مصالح واسعة تدافع عنها، وواهم من يعتقد أنها استسلمت وسلمت الحكم بهذه السهولة. فهناك الكثير من المؤشرات على أنها لا تزال ناشطة حتى اللحظة، واستمرار الغموض والبطء في قرارات المجلس العسكري الانتقالي وخطواته لملاحقة واعتقال قيادات النظام، وفي وضع اليد على دور حزبه، ومقار شركاته وميليشياته، وفي ترتيبات نقل السلطة لحكومة مدنية، لا يثير التساؤلات ويغذي شكوك المتشككين فحسب، بل يساعد الذين يريدون تقويض الثورة. أمام هذا الوضع ليس مجدياً أن يكتفي الناس بالشكوى من المجلس العسكري وبإثارة الشكوك حول بعض خطواته، بينما القوى السياسية والمهنية تتحرك أيضاً ببطء غير مفهوم وغير مبرر تاركة فراغاً خطيراً.
كان يفترض وفقاً لكل الاستعدادات والترتيبات السابقة أن تكون قوى «الحرية والتغيير» جاهزة لعملية نقل السلطة إلى حكومة مدنية، وأن يكون هناك توافق على الأسماء المرشحة لتولي المسؤوليات في الفترة الانتقالية بحيث تعلن هذه الحكومة وكل الترتيبات الأخرى من دون إبطاء بعد إذاعة بيان تنحية البشير. فالتأخير الذي حدث بدا محيراً للشارع، ولا سيما أنه لم يكن مطلوباً من القوى السياسية أن تحصل على إشارة أو موافقة من المجلس العسكري لتقديم حكومتها الانتقالية. زمام المبادرة كان في يد «قوى الحرية والتغيير» المسنودة بالثورة الشعبية، وكان في مقدورها وضع كل ترتيباتها بما في ذلك تشكيلة حكومة مدنية متفق عليها أمام المجلس العسكري الذي لم يكن سيعترض عليها أمام الشارع المعبأ والجماهير المعتصمة أمام قيادة القوات المسلحة. ولو كانت هذه القوى عجّلت بإعلان خطواتها وسمّت الحكومة الانتقالية، لما كانت في حاجة إلى الطلب من المجلس إصدار قرارات وإجراء تعديلات في الجهاز القضائي، وفي أجهزة الإعلام، أو إصدار توجيهات إلى السلطات المالية أو التنفيذية.
التأخير عدا عن أنه يعزز سلطات المجلس العسكري الذي تطالب هذه القوى بأن يقلص ويُضَمّ إليه مدنيون بحيث يكون مجلس سيادة انتقالياً، فإنه يتيح الفرصة للدولة العميقة لكي تكثف نشاطها الهادف لتقويض الثورة أملاً في إعادة إنتاج نظامها. فكل متابع لما يدور في الساحة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، يلمس الكم الهائل من الشائعات والأخبار المدسوسة الرامية للتشويش وإضعاف تماسك القوى السياسية والمهنية والشعبية. والأمر لا يتعلق بماكينة الشائعات فقط، بل بكل مفاصل العمل في الدولة وفي الاقتصاد التي لا تزال إما في قبضة الدولة العميقة أو لديها القدرة على التأثير فيها.
الوضع لا يحتمل البطء الذي نراه اليوم، فكل يوم يمر يستنزف من طاقة الثورة ويقوي المتربصين بها.
الشرق الأوسط