الحبيب الأسود
القرار الإماراتي السعودي بتقديم حزمة مشتركة من المساعدات المهمة للشعب السوداني سبقته قبل أيام قليلة مبادرة الإغاثة المشتركة لضحايا الفيضانات والسيول في إيران، ومن يستمع إلى هذين الخبرين في ظرف أسبوع واحد، سيحاول، خصوصا إن كان من بلد آخر غير البلدين المعنيين، أن يفهم طبيعة العلاقات بين أبوظبي والرياض، والتي بلغت حد الاشتراك في اتخاذ القرارات السيادية، في خطوة غير مسبوقة، وتبدو الأولى من نوعها على الصعيد العربي ومن الحالات النادرة دوليا.
في مايو 2016 تم الإعلان عن تأسيس مجلس التنسيق السعودي الإماراتي وهو مجلس تنسيقي تندرج تحت مظلته جميع مجالات التعاون والعمل المشترك بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وفي يونيو 2018 انعقد أول اجتماع للمجلس تحت مسمى استراتيجية العزم، وتم الإعلان عن 44 مشروعا استراتيجيا سعوديا – إماراتيا مشتركا في المجالات الاقتصادية والتنموية والعسكرية.
ويهدف المجلس إلى وضع رؤية مشتركة تعمل على تعميق واستدامة العلاقات بين البلدين بما يتسق مع أهداف مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتعزيز المنظومة الاقتصادية المتكاملة بين البلدين، وإيجاد الحلول المبتكرة للاستغلال الأمثل للموارد الحالية، وبناء منظومة تعليمية فعّالة ومتكاملة قائمة على نقاط القوة التي تتميز بها الدولتان، وتعزيز التعاون والتكامل بين البلدين في المجال السياسي والأمني والعسكري، وضمان التنفيذ الفعال لفرص التعاون والشراكة بين البلدين، إضافة إلى إبراز مكانة الدولتين في مجالات الاقتصاد والتنمية البشرية والتكامل السياسي والأمني العسكري، وتحقيق الرفاه الاجتماعي في البلدين.
واستراتيجية العزم عمل عليها 350 مسؤولا من البلدين من 139 جهة حكومية وسيادية وعسكرية، خلال 12 شهرا، ومن خلال ثلاثة محاور رئيسة هي المحور الاقتصادي والمحور البشري والمعرفي والمحور السياسي والأمني والعسكري. ووضع قادة البلدين مدة 60 شهرا لتنفيذ المشروعات الاستراتيجية التي تهدف إلى بناء نموذج تكاملي استثنائي بين البلدين يدعم مسيرة التعاون الخليجي المشترك، ويسهم، في الوقت نفسه، في حماية المكتسبات والمصالح وخلق فرص جديدة أمام الشعبين الشقيقين.
أعطى الوعي الاستراتيجي لقيادتي البلدين مجالا فسيحا لبلورة رؤية مستقبلية للعمل المشترك من خلال الاتجاه إلى ضمان الأولويات المركزية، ومن ذلك خطة موحدة للأمن الغذائي وخطة موحدة للمخزون الطبي، ومنظومة أمن إمدادات مشتركة، واستثمار مشترك في مجال النفط والغاز والبتروكيماويات، حيث تم الإعلان عن خطة لإنشاء شركة للاستثمار الزراعي وصندوق استثماري مشترك للطاقة المتجددة، وصندوق ثالث للاستثمار في المشروعات الصغيرة والمتوسطة، إلى جانب تسهيل انسياب الحركة في المنافذ، وبناء قاعدة بيانات صناعية موحدة، وتمكين القطاع المصرفي في البلدين، ومواءمة الإجراءات والتشريعات الاقتصادية بين البلدين، ومجلس مشترك لتنسيق الاستثمارات الخارجية، مع استراتيجية التعاون والتكامل في المجال الأمني والعسكري، وتنسيق المساعدات العسكرية الخارجية، وتوحيد المواصفات في قطاع الصناعات العسكرية، والسعي إلى تفعيل الصناعات التحويلية ذات القيمة المشتركة، وتنفيذ مشروع الربط الكهربائي، وإطلاق خدمات وحلول إسكانية وتمويلية مشتركة بين البلدين وإنشاء مركز مشترك لتطوير تقنيات تحلية المياه، وتعاون في إدارة مشروعات البنية التحتية التي تبلغ 150 مليار دولار سنويا، وتعاون في تطوير تقنيات التكنولوجيا المالية الحديثة.
طموح القيادتين لا يتوقف عند حد، وإنما يعمل على التخطيط المشترك لمختلف الملفات وعلى رأسها الأمن الغذائي والدفاع المشترك والصناعات العسكرية والتكامل الأمني وغزو الفضاء والاهتمام بالشباب وتوطين التكنولوجيات والذكاء الاصطناعي وتوحيد المواقف من مجمل القضايا الإقليمية والدولية ومخاطبة العالم بصوت واحد.
وفي 15 أبريل الجاري أوصت اللجنة التنفيذية لمجلس التنسيق السعودي – الإماراتي اجتماعها الثاني في العاصمة السعودية الرياض بتفعيل 7 لجان تكاملية، تدير وتنظم 26 مجالا ذات الأولوية، وتقيم الفرص المتاحة للتعاون المشترك بين البلدين، بالإضافة إلى مراجعة كافة الملفات المطروحة والمرتبطة بالمبادرات وتحديد الأولويات، والعمل على دعم اللجنة التنفيذية من خلال رفع الملاحظات والتوصيات.
إن مستوى ما بلغته العلاقات التكاملية بين الإمارات والسعودية، وخصوصا في مجال الاستثمار في المستقبل، وما تم التخطيط لإنجازه خلال المرحلة القادمة، يؤشّر إلى تأسيس قوة سياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية في المنطقة العربية، سيكون لها دورها المهم في تكريس القدرة على الانطلاق عاليا وبعيدا، ومن خلال الفضاء العالمي الرحب. فالبلدان بما يملكان من إمكانيات وقدرات وطموحات ورؤى، يتجهان لفرض نفسيهما كقوة موحدة أمام كل التحديات، من خلال نموذج هو الأقرب إلى الاتحاد غير المعلن، خصوصا في ظل ثورة الإصلاحات الهادئة التي تشهدها المملكة، والتي تتجاوب بشكل كبير مع رؤية الإمارات، لينطلق البلدان نحو العالم والمستقبل كقطب جديد بأهداف موحدة بدأت تطرح ثمارها داخليا وخارجيا.
وبكثير من الثقة في ما يمكن أن يحققاه معا من إنجازات، اتجه البلدان إلى تنويع علاقاتهما الدولية للاستفادة من مختلف التجارب، ولضمان علاقات متوازنة تنبني على المصالح المشتركة، ولاستقطاب التكنولوجيات وتوطينها بهدف التأسيس للصناعات المتقدمة وللبحث العلمي وعلوم التقنيات المتقدمة، وهذا في حد ذاته مؤشّر على أن المنطقة العربية مقبلة على عصر جديد بمقاييس تحددها القدرة على مسابقة العصر وبناء الإمكانات الذاتية وتطوير الأداء في مختلف المجالات بما يحقق القوة والمناعة للدول والاكتفاء والرفاه للشعوب.
ولا شك في أن التنسيق بين الإمارات والسعودية، بات يشمل العلاقات الإقليمية والدولية، حتى أنه لم تعد هناك إمكانية للحديث عن مواقف مختلفة أو متناقضة بينهما، ولم يعد بإمكان أي طرف خارجي أن يعتقد بأنه قادر على الانفراد بهذه الدولة أو تلك، وهذا ما سبق أن شهده العالم في تحالفهما ضد الانقلاب الحوثي في اليمن وضد التآمر القطري البغيض، وضد الأطماع الإيرانية والتركية السافرة، وضد محاولات بعض الأطراف الأميركية والغربية المساس بالرياض على خلفية مقتل الصحافي جمال خاشقجي، وكذلك في ما يتعلق بدعم مصر وتأمين القرن الأفريقي من الإرهاب، ومساندة الحرب التي يخوضها الجيش الوطني الليبي ضد الجماعات الإرهابية والميليشيات الخارجة عن القانون، ومساعدة العراق لاسترداد دوره القومي وحضوره العربي، والدفع نحو حل سياسي يحفظ سيادة الدولة السورية، وصولا إلى دعم السودان خلال هذه الفترة الاستثنائية من تاريخه.
وما هذا إلا غيض من فيض، فللإمارات والسعودية مواقف موحدة من مجمل القضايا العالمية، وحتى الدول الكبرى باتت تحسب لهذا الواقع الجديد ألف حساب، يمكن أن نقرأه من السياسات الجديدة التي تعتمده عواصم كبرى مثل واشنطن وموسكو وباريس وبكين في تعاملها ليس مع البلدين فقط، ولكن مع مجمل المستجدات في المنطقة، حيث أضحت تلك العواصم ترى أن عليها أولا أن تنظر إلى الموقف الإماراتي السعودي المشترك قبل اتخاذ أي موقف أو قرار.
إن العالم لا يحترم إلا الأقوياء، وهو اليوم أمام قوة جديدة تظهر لتعيد تشكيل المشهد في الخليج والشرق الأوسط، هي قوة التنسيق الذي يتجه ليكون تكاملا بإمكانيات كبرى على جميع الأصعدة والمستويات بين الإمارات والسعودية.
العرب اللندنية