تركي الدخيل
ولم أجدْ في وصايا الكرام، أكثرَ من الاعتذار، وألزم من وجوب قبوله للحر. وهو خلق عجيب، في أصله اعتراف بالإنسانية، التي تبرر وجود الخطأ، وتعطي المتأدب – لا غيره – فضيلة تحويل اقتراف الخطأ إلى مزية فردية، يمتاز بها صاحب الخلق الرفيع عن دهماء الناس.
وهل أجهل من غافل، يُفَوِّتُ على نفسه فضيلة وضع سوسنة، تُنبِت ابتسامة على وجه متجهم؟!
الاعتذار، أيها السيدات والسادة، من ألزم الأخلاق الجديرة بالغراس في قيم الطفولة، فهي لبُّ التواضع، وجوهر الرقي، وذات السمو.
ومن يرتقي لممارسة فضيلة الاعتذار، هو لقبول الاعتذار من الفاعلين، ففي القبول إشاعة لهذه الفضيلة، وتحريض على تعاطيها.
ولا شك في أن الاعتذار في أصله تشذيب لشجرة الكبر والتكبر، وتهذيب لمشاعر الغطرسة والغرور. فالمتكبر ظالم لنفسه قبل أن يكون مخطئاً في حق غيره. وهيهات أن يكون المعتذر متكبراً، فالرقي إلى الاعتذار صعودٌ، يبعد صاحبه عن دركات الغرور.
في الاعتذار يستَلُّ المُعتَذِرُ سَخِيمَة قلبِ من يعتذر إليه، ويُحيلُ غَضَبَهُ رِضاً، وانفِعَالَهُ سكِينَةً، وقليلٌ من الأفعال تحول الناس من الضد إلى الضد؛ وقديماً قيل:
ضِدانِ لما اجتمعا حَسُنا
والضِّدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِّدُّ
وهذا لعمري عجيب، فالاعتذار لغة كونية، نمارسها في المطارات حين نتجاوز الدور، وفي شوارع المدن المزدحمة، حين نكاتف عابراً، ثم نلتفت بابتسامة عتاب، ويرد بابتسامة، تغسل ما كان سيبقى في النفس لولا اعتذار الابتسامة العجلى.
بل يُذهب الاعتذار سوء الظن، ويقف شامخاً، يزيد من قامة المُعتذر، أياً كانت زلته. فعلها الأنبياء، تحبباً لأصحابهم، وتأكيداً على إنسانيتهم. ومارسها الملوك نزولاً عند انتظار شعوبهم، فلم يزدهم ذلك إلا احتراماً وخلوداً وسمواً.
ولعلي لا أنسى فضيلة من فضائل الاعتذار، قد لا ينتبه إليها بعض، ففي الاعتذار إقرار مُبَطَّن بعدم العودة لما اعتُذِرَ عنه. وفي الأثر: «ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً».
ولا يعيب الحر وقوعه في الخطأ مرة؛ بل إصراره على العودة للوقوع في الحفرة ذاتها هو ما يشين. وفي أثرٍ آخر: «لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة».
ومن أجمل خصائص الاعتذار، أنه لا يختص بعمر، ولا فئة، ولا جنس، دون آخر، فهو حقٌّ للكبير على الصغير، وواجب على الصغير تجاه الكبير، وتودد للزوجة، وتحبب للصديق، ولطف مع الغريب، وفريضة يفرضها الحر على نفسه، إذا زلَّ.
وقد يبادر أحدهم بالاعتذار تلطفاً، وذكاءً، وإيماناً بوقع الاعتذار على النفس البشرية، التي جُبلَت على تفهم الاعتذار أياً كانت لغته، باعتباره مروضاً للنفس. ومُحَجِّماً لـ«الأنا»، التي قلَّ من ينجو من أمراضها وعللها. فلم أرَ في حياتي «كبيراً» بالمعنى الحقيقي، إلا وهو يرى الاعتذار كمالاً، لا يحتاج إلى تبرير، وانتباهاً لا يغفل عنه عاقل أو ذو جاهٍ ومنصب، وهو من الكبير قدراً أجمل، ومن الطفل أعجب.
كم من الدماء حُقنت باعتذار، وكم من الحروب خبا لهيب نيرانها بأبيات شعر تضمنت اعتذاراً.
إن كلمة: «أنا آسف»، تخرج من القلب إلى القلب، فتبرئ المكلوم، وتجبر الخاطر المكسور. وعكسها التبرير، الذي يعتبره العقلاء: «الخطأ الثاني الذي يقع فيه المخطئ مباشرة»، وقياساً عليه، فالاعتذار هو الحِلية التي تزين ما نقص، وتجبر ما انكسر.
ومن أعجب عجائب الاعتذار، أن قبوله محمدة ومَكْرُمَة، لا يفرط فيها إلا جاهل، ومن أراد تأكيد ذلك، فلينظر في اشتقاقات العذر والعفو في اللغة وليتتبعها.
وتأمل وصايا النويري في مصنفه الجميل «نهاية الأرب في فنون الأدب»، حين جعل فيها قبول الاعتذار من أوجب الواجبات. ومن ذاك وصية الأعرابي لابنه: «يا بني، لا يعتذر إليك أحد من الناس، صادقاً كان أو كاذباً، إلا قَبِلتَ عُذْرَهُ، فكفاكَ بالاعتذار براً من صديقك، وذلاً من عدوك»، وإن خالفتُ الأعرابي في الأخيرة!
ولا أجملَ من البحتري، وهو ينظم قول الأعرابي شعراً، فيقول في دستور الأخلاق:
اقبل معاذيرَ من يأتيك معتذراً
إن بر عندك فيما قال أو فجرَا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره
وقد أجلك من يعصيك مستترَا
خير الخليلين من أغضى لصاحبه
ولو أراد انتصاراً منه لانتصرَا
وقد أكثر الشعراء في باب الاعتذار، لكثرة أخطائهم، ورقة مشاعرهم وحساسيتهم. فمنهم كثيرون عبَروا بخفة من الاعتذار للغزل، واستعمال ذلك كثير في التودد للمحبوبة، ومن لا يعرف أثر الاعتذار على النساء، بكلمة، أو حتى بوردة!
ألم يُقسِم جميلٌ لبثينة، ليواري شكَّها في حبه دون طلب منها؛ بل زيادة في التحبب، إذ قال:
حلفتُ يميناً يا بثينة صادقاً
فإن كنتُ فيها كاذباً فعميت
إذا كان جلدٌ غير جلدكِ مسَّنِي
وباشرني، دون الشعار، شريت
ولو أنَّ داعٍ منك يدعو جنازتي
وكنتُ على أيدي الرجال حييت
ما أكذبَ الشعراء؛ بل ما أجملَهم عزيزي القارئ، فلا أشك لحظة في أن جميلاً كتب البيت الأخير ثم فكر ملياً في مدخل يخطف قلب بثين، فلم يجد بداً من اختلاق اليمين اعتذاراً!
وما أعظم شفاعة أبي الطيب، حين قدم عليه بنو كلاب، ليوصل طاعتهم وإخلاصهم لسيف الدولة، فنظم مقطوعته التي تطرب وتحنن قلب السامع، حتى يكاد المخطئ يضمن قبول طلبه، قبل إتمام القصيدة:
ترفق أيها المولى عليهمْ
فإن الرفق بالجاني عتابُ
وإنهم عبيدك حيث كانوا
إذا تدعو لحادثة أجابوا
وعين المخطئين همُ وليسوا
بأول معشر خطئوا فتابوا!
وهل لمثلي، بعد أبي الطيب، سوى الابتهال: اللهم صنفنا في المعتذرين، واكتبنا في العاذرين، واجعلنا لفضيلة الاعتذار من العارفين. ومنك أيها القارئ الكريم، نلتمس العذر، إن قرأت ما لا يليق بوقتك، أو ما لا تسرك رؤيته. ولذلك، عنونتُ هذه السطور باعتذار، و«العذرُ عند كرام الناس… مقبول»!
وهل أجهل من غافل، يُفَوِّتُ على نفسه فضيلة وضع سوسنة، تُنبِت ابتسامة على وجه متجهم؟!
الاعتذار، أيها السيدات والسادة، من ألزم الأخلاق الجديرة بالغراس في قيم الطفولة، فهي لبُّ التواضع، وجوهر الرقي، وذات السمو.
ومن يرتقي لممارسة فضيلة الاعتذار، هو لقبول الاعتذار من الفاعلين، ففي القبول إشاعة لهذه الفضيلة، وتحريض على تعاطيها.
ولا شك في أن الاعتذار في أصله تشذيب لشجرة الكبر والتكبر، وتهذيب لمشاعر الغطرسة والغرور. فالمتكبر ظالم لنفسه قبل أن يكون مخطئاً في حق غيره. وهيهات أن يكون المعتذر متكبراً، فالرقي إلى الاعتذار صعودٌ، يبعد صاحبه عن دركات الغرور.
في الاعتذار يستَلُّ المُعتَذِرُ سَخِيمَة قلبِ من يعتذر إليه، ويُحيلُ غَضَبَهُ رِضاً، وانفِعَالَهُ سكِينَةً، وقليلٌ من الأفعال تحول الناس من الضد إلى الضد؛ وقديماً قيل:
ضِدانِ لما اجتمعا حَسُنا
والضِّدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِّدُّ
وهذا لعمري عجيب، فالاعتذار لغة كونية، نمارسها في المطارات حين نتجاوز الدور، وفي شوارع المدن المزدحمة، حين نكاتف عابراً، ثم نلتفت بابتسامة عتاب، ويرد بابتسامة، تغسل ما كان سيبقى في النفس لولا اعتذار الابتسامة العجلى.
بل يُذهب الاعتذار سوء الظن، ويقف شامخاً، يزيد من قامة المُعتذر، أياً كانت زلته. فعلها الأنبياء، تحبباً لأصحابهم، وتأكيداً على إنسانيتهم. ومارسها الملوك نزولاً عند انتظار شعوبهم، فلم يزدهم ذلك إلا احتراماً وخلوداً وسمواً.
ولعلي لا أنسى فضيلة من فضائل الاعتذار، قد لا ينتبه إليها بعض، ففي الاعتذار إقرار مُبَطَّن بعدم العودة لما اعتُذِرَ عنه. وفي الأثر: «ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً».
ولا يعيب الحر وقوعه في الخطأ مرة؛ بل إصراره على العودة للوقوع في الحفرة ذاتها هو ما يشين. وفي أثرٍ آخر: «لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة».
ومن أجمل خصائص الاعتذار، أنه لا يختص بعمر، ولا فئة، ولا جنس، دون آخر، فهو حقٌّ للكبير على الصغير، وواجب على الصغير تجاه الكبير، وتودد للزوجة، وتحبب للصديق، ولطف مع الغريب، وفريضة يفرضها الحر على نفسه، إذا زلَّ.
وقد يبادر أحدهم بالاعتذار تلطفاً، وذكاءً، وإيماناً بوقع الاعتذار على النفس البشرية، التي جُبلَت على تفهم الاعتذار أياً كانت لغته، باعتباره مروضاً للنفس. ومُحَجِّماً لـ«الأنا»، التي قلَّ من ينجو من أمراضها وعللها. فلم أرَ في حياتي «كبيراً» بالمعنى الحقيقي، إلا وهو يرى الاعتذار كمالاً، لا يحتاج إلى تبرير، وانتباهاً لا يغفل عنه عاقل أو ذو جاهٍ ومنصب، وهو من الكبير قدراً أجمل، ومن الطفل أعجب.
كم من الدماء حُقنت باعتذار، وكم من الحروب خبا لهيب نيرانها بأبيات شعر تضمنت اعتذاراً.
إن كلمة: «أنا آسف»، تخرج من القلب إلى القلب، فتبرئ المكلوم، وتجبر الخاطر المكسور. وعكسها التبرير، الذي يعتبره العقلاء: «الخطأ الثاني الذي يقع فيه المخطئ مباشرة»، وقياساً عليه، فالاعتذار هو الحِلية التي تزين ما نقص، وتجبر ما انكسر.
ومن أعجب عجائب الاعتذار، أن قبوله محمدة ومَكْرُمَة، لا يفرط فيها إلا جاهل، ومن أراد تأكيد ذلك، فلينظر في اشتقاقات العذر والعفو في اللغة وليتتبعها.
وتأمل وصايا النويري في مصنفه الجميل «نهاية الأرب في فنون الأدب»، حين جعل فيها قبول الاعتذار من أوجب الواجبات. ومن ذاك وصية الأعرابي لابنه: «يا بني، لا يعتذر إليك أحد من الناس، صادقاً كان أو كاذباً، إلا قَبِلتَ عُذْرَهُ، فكفاكَ بالاعتذار براً من صديقك، وذلاً من عدوك»، وإن خالفتُ الأعرابي في الأخيرة!
ولا أجملَ من البحتري، وهو ينظم قول الأعرابي شعراً، فيقول في دستور الأخلاق:
اقبل معاذيرَ من يأتيك معتذراً
إن بر عندك فيما قال أو فجرَا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره
وقد أجلك من يعصيك مستترَا
خير الخليلين من أغضى لصاحبه
ولو أراد انتصاراً منه لانتصرَا
وقد أكثر الشعراء في باب الاعتذار، لكثرة أخطائهم، ورقة مشاعرهم وحساسيتهم. فمنهم كثيرون عبَروا بخفة من الاعتذار للغزل، واستعمال ذلك كثير في التودد للمحبوبة، ومن لا يعرف أثر الاعتذار على النساء، بكلمة، أو حتى بوردة!
ألم يُقسِم جميلٌ لبثينة، ليواري شكَّها في حبه دون طلب منها؛ بل زيادة في التحبب، إذ قال:
حلفتُ يميناً يا بثينة صادقاً
فإن كنتُ فيها كاذباً فعميت
إذا كان جلدٌ غير جلدكِ مسَّنِي
وباشرني، دون الشعار، شريت
ولو أنَّ داعٍ منك يدعو جنازتي
وكنتُ على أيدي الرجال حييت
ما أكذبَ الشعراء؛ بل ما أجملَهم عزيزي القارئ، فلا أشك لحظة في أن جميلاً كتب البيت الأخير ثم فكر ملياً في مدخل يخطف قلب بثين، فلم يجد بداً من اختلاق اليمين اعتذاراً!
وما أعظم شفاعة أبي الطيب، حين قدم عليه بنو كلاب، ليوصل طاعتهم وإخلاصهم لسيف الدولة، فنظم مقطوعته التي تطرب وتحنن قلب السامع، حتى يكاد المخطئ يضمن قبول طلبه، قبل إتمام القصيدة:
ترفق أيها المولى عليهمْ
فإن الرفق بالجاني عتابُ
وإنهم عبيدك حيث كانوا
إذا تدعو لحادثة أجابوا
وعين المخطئين همُ وليسوا
بأول معشر خطئوا فتابوا!
وهل لمثلي، بعد أبي الطيب، سوى الابتهال: اللهم صنفنا في المعتذرين، واكتبنا في العاذرين، واجعلنا لفضيلة الاعتذار من العارفين. ومنك أيها القارئ الكريم، نلتمس العذر، إن قرأت ما لا يليق بوقتك، أو ما لا تسرك رؤيته. ولذلك، عنونتُ هذه السطور باعتذار، و«العذرُ عند كرام الناس… مقبول»!
دبلوماسي سعودي
الشرق الأوسط