أقلام مختارة

عندما يضع السراج مقاليد طرابلس في أيادي ميليشيات مصراتة

الحبيب الأسود

الحبيب الأسود

التركيز القطري التركي الإيطالي البريطاني وحتى الإيراني ينصبّ على مصراتة، ثاني أكبر مدن الغرب الليبي بعد طرابلس، والعاصمة الاقتصادية التي تتميز بحظوة خاصة لدى النظام السابق، عكس ما يعتقده البعض، ما جعل أكبر نسبة من العقود والصفقات والقروض المصرفية تذهب لعدد من رجال الأعمال فيها، وعلى رأسهم علي الدبيبة الذي كان يتولى منصب رئيس جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية في ليبيا، ويتصرف في المليارات من الدولارات التي تحول جزء منها لاحقا لدعم الميليشيات.

اليوم تتزعم مصراتة المواجهة ضد الجيش الوطني الليبي وعملية “طوفان الكرامة” لتحرير العاصمة من الميليشيات وتطهيرها من الإرهاب، وعندما أتحدث عن مصراتة هنا لا أقصد عموم السكان المحليين، وإنما أمراء الحرب وقادة الجماعات المسلحة والفاعلين السياسيين المرتبطين إما بالمشروع الجهوي الانعزالي، أو بالمشروع الإخواني وحلفائه في الداخل والخارج.

فوجئ رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج بانطلاق عملية “طوفان الكرامة” بعد أن كان تلقى وعودا من أمير قطر خلال لقائهما في الدوحة في العاشر من مارس الماضي بألا يتقدم الجيش نحو العاصمة، وأن عليه أن يتراجع عن وعده للمشير خليفة حفتر في اجتماع أبوظبي يوم 20 فبراير 2019، وفعلا تراجع السراج عن وعده بالسماح للجيش الوطني بدخول طرابلس دون طلقة واحدة والانطلاق في توحيد القوات المسلحة.

في الخامس من إبريل اتصل السراج بالرجل القوي في مصراتة محمد بن عيسى، وطلب منه التدخل لمواجهة الجيش، وكان جواب بن عيسى واضحا “جهّز المال وسلّم القرار لجماعتنا وسندفع إليك بقوات حاشدة” وفعلا تم تسييل مبلغ مليار و500 مليون دولار من أموال المصرف المركزي بسعر الصرف الرسمي، وتوزيعها على قادة الميليشيات.

وضع السراج كل البيض في سلة مصراتة، كلف أحمد معيتيق المصراتي بالقيام بجولات خارجية شملت دولا عدة من بينها تونس والجزائر وإيطاليا وتركيا، ولم يكن في حاجة لزيارة الدوحة بعد أن اجتمع بوزير الخارجية القطري في روما، كما كلف فتحي باشا آغا، المصراتي كذلك، بالإشراف على وزارة الدفاع في حكومة الوفاق إلى جانب وزارة الداخلية، وأعطاه جميع الصلاحيات للإشراف على التحركات الميدانية.

وكان السراج قد كلف باشا آغا بحقيبة الداخلية في أكتوبر 2018، وعندما سئل آنذاك عن السبب، قال إن لديه معلومات استخباراتية بوجود اتصالات سرية بين بعض ميليشيات طرابلس والقيادة العامة للجيش الوطني قد تؤدي إلى التحالف ضده، وأضاف أن هناك أمرا آخر يجعله يتخذ ذلك القرار وهو الهجوم الذي شنه اللواء السابع القادم من ترهونة على العاصمة في أغسطس وسبتمبر الماضيين على بعض ضواحي العاصمة تحت شعار تحريرها من دواعش المال العام، والذي بين أن المجلس الرئاسي في حاجة إلى قوات أكبر لحمايته، وتلك القوات لا يمكن أن تكون إلا قوات مصراتة، لذلك تمت الاستعانة بباشا آغا المعروف بأنه كان قائدا ميليشياويا منذ العام 2011 وما بعده.

وطبعا بات السراج يستمع يوميا لاستشارات محمد صوان المصراتي، زعيم حزب العدالة والبناء، الجناح السياسي لجماعة الإخوان، الذي يقول المقربون منه إنه مهندس كل ما يدور في العاصمة منذ وصلها رئيس المجلس الرئاسي يوم 30 مارس 2016 في فرقاطة إيطالية متسللة من تونس إلى قاعدة بوستة البحرية لتنفيذ اتفاقية الصخيرات التي كان الهدف منها إعادة رسكلة الإسلام السياسي بعد هزيمته في انتخابات يونيو 2014.

ميليشيات مصراتة تبحث من جهتها عن فرصة للعودة إلى العاصمة بعد طردها منها في العام 2017، وكانت تتهم السراج وحكومته وقواته بالوقوف وراء ذلك، إلى أن جاء موعد العودة وهو ما يلقى معارضة شديدة من سكان العاصمة الذين طالما ذاقوا الويل من الميليشيات الجهوية والإخوانية، وخاصة في أحداث قرقور في نوفمبر 2013 والتي خلفت المئات من القتلى والمصابين، أو في عملية “فجر ليبيا” الانقلابية على نتائج الانتخابات في 2014، وغيرها من الأعمال الإجرامية التي تراوحت بين الاغتيال والنهب والسلب والتهجير والاعتقال على الهوية والتعذيب الوحشي للضحايا.

لم يستوعب السراج الذي جاء للسلطة بقرار دولي ولم يحظ بشرعية الداخل، أن اعتماده على ميليشيات مصراتة والإخوان سيضعه في مواجهة مع بقية الشعب الليبي، لذلك قررت الأغلبية الساحقة من المدن والقبائل الوقوف مع القوات المسلحة بقيادة خليفة حفتر، أما مصراتة ذاتها فلم تستطع الدفع إلا بـ30 بالمئة من قواتها، خشية أن تدفع بجميع الميليشيات إلى العاصمة فيستغل الجيش ذلك، ويدفع إليها بقواته المحتشدة من شرق وجنوب سرت، لذلك اتجهت للاعتماد في جانب كبير من دعمها للسراج على القصف الجوي من خلال الطيران المنطلق من كلية مصراتة الجوية لضرب عدد من المدن والقرى، ليس في محاولة لاستهداف الجيش فقط، وإنما لترويع السكان الآمنين كعقاب لهم على دعمهم لعملية طوفان الكرامة.

قد يكون من المستعصي فهم ما أقدم عليه السراج من الاعتماد على ميليشيات يعلم جيدا أنها مرفوضة من الأغلبية الساحقة من الليبيين، فهي متورطة في جرائم ضد القبائل والمدن الكبرى مثل طرابلس وبني وليد وترهونة وورشفانة وتاجوراء والزنتان وبراك الشاطئ والمشاشية والأصابعة والجنوب والرجبان وغيرها، حتى سرت، التي تسيطر عليها قوات مصراتية بدعوى تحريرها من داعش، يعرف أهلها أن الدواعش دخلوها تحت غطاء ميليشيات مصراتة وعلى رأسها كتيبة “الفاروق” المرتبطة بتنظيم القاعدة والتي تشارك اليوم في التصدي للقوات المسلحة النظامية على مشارف العاصمة، أما المنطقة الشرقية فقد عانت طويلا من دعم مصراتة للجماعات الإرهابية في بنغازي وإجدابيا ودرنة، وخاصة عبر الجرافات الحاملة للسلاح والإرهابيين.

تتخذ ميليشيات مصراتة من التحالف القطري التركي الإخواني غطاء لها منذ 2011، ويروي علي الصلابي، أحد أبرز قادة إخوان ليبيا، أنه بعد انطلاق معركة الإطاحة بنظام معمر القذافي، ذهب ليجتمع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ليقول له “لماذا تقف على الحياد، وهناك أقلية تركية في مصراتة تتعرض للإبادة من قبل النظام؟”. وما إن استمع الرئيس التركي تلك الكلمات حتى أمر بدعم المتمردين، وفي 16 سبتمبر 2011 ذهب أردوغان إلى طرابلس ثم إلى مصراتة ليقدم نفسه على أنه الفاتح العثماني العظيم والناصر لقومه والداعم للسلطة الجديدة التي تموقعت على أنقاض نظام كان بصدد تكريمه ومنحه جائزة بمليون دولار قبل عشرة أشهر، وتحديدا يوم 29 نوفمبر 2010.

مصراتة عقدت بصفة تكاد منفصلة عن السلطة اتفاقيات مع تركيا، ومع إيطاليا، ومع قطر التي تعتبر أن لها في مصراتة قوة قادرة لا على إرسال المقاتلين إلى ساحات القتال لخدمة مشروعها فقط، وإنما على قمع أي محاولة داخلية لاستبعاد الجماعات المتطرفة المرتبطة بالإسلام السياسي.

وحتى باب العلاقة مع إيران ظل مفتوحا، فميليشيات مصراتة تستقبل خبراء من الحرس الثوري الإيراني لتدريب مقاتليها، والحديث عن وجود سفينة شحن إيرانية في طريقها إلى ساحل المدينة ليس جديدا نظرا لوجود تجارب سابقة في هذا المجال، خصوصا عندما نربط بين ميليشيات مصراتة وحليفاتها الميليشيات الأمازيغية التي تساعدها اليوم في التصدي للجيش، وكانت معها سابقا سواء أثناء السيطرة على طرابلس أو أثناء عملية “فجر ليبيا”.

بهذا يكون السراج قد وضع نفسه رهينة لدى ميليشيات مصراتة حتى ضد ميليشيات طرابلس نفسها، وارتبط نهائيا بالمحور التركي القطري الإيراني المعادي للعرب والعروبة، بل واتجه بكل قوة لمعاداة الأغلبية الساحقة من أبناء شعبه، هذا إذا اطلعنا على الخطاب العنصري الصادر عن عدد من أمراء الحرب ومن سياسيي مصراتة الذين يبررون اليوم موقفهم بأنهم لن يسمحوا بعودة سكان البادية الليبية للحكم، ولا بوصول أهل الشرق إلى السلطة، ولا بالتخلي عن المؤسسات السيادية كالمصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط لفائدة من لا يخضع لأوامرهم.

عندما دعا محمد بن عيسى فائز السراج إلى التعامل مع مصراتة بمنطق السمع والطاعة، لقي الاستجابة الكاملة، ولكن لا أحد يعرف ماذا سيحدث بعد أيام، فالسراج قد يكون أول ضحية لذلك الموقف الذي اتخذه، وقد تتخلى عنه مصراتة يوم يقتحم الجيش قاعدة بوستة، ليعيد الأمن والاستقرار والسيادة الوطنية إلى العاصمة المنكوبة.

العرب اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق