السلايدر الرئيسيتحقيقات
قراءةٌ لـ “” في ثقافة التعايُش والتسامُح… ونموذجٌ عن أهمّيّة العمل المؤسّساتيّ لجعل العالم أكثر أمانًا
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ على رغم الاهتمام البالغ الذي حظيَت به مبادرة دولة الإمارات العربيّة المتّحدة لدى إنارة برج خليفة في دبي بإحدى صور رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن التعبيريّة الرائعة أثناء قيامها بمواساة أهالي ضحايا الهجوم الإرهابيّ على مسجديْ مدينة كرايست تشيرتش في شهر آذار (مارس) الماضي، وما ترافق مع هذا الاهتمام من مواقفَ تضامنيّةٍ داعمةٍ للمبدأ القائل بوجوب العمل على تعميم ثقافة التعايُش والتسامُح وتقبُّل الآخر بين رعايا الأديان السماويّة حيثما استطاع المرء إلى ذلك سبيلًا في مختلف أنحاء العالم، فإنّ رواسبَ ثقافات البُغض والكراهيّة والإرهاب المستمدَّةَ أصلًا من إرهاصات الخطابات الشعبويّة والعنصريّة والطائفيّة ما زالت تجد في المقابل بيئاتها الحاضنة في أكثرَ من مكانٍ وعلى أكثرَ من صعيدٍ، الأمر الذي يعني في إطار ما يعنيه أنّ أرواح الناس ستبقى معرَّضةً للاستهداف حتّى إشعارٍ آخر بهجومٍ مسلَّحٍ من هنا أو بتفجيرٍ انتحاريٍّ من هناك، على شاكلة ما حدث مؤخَّرًا في سريلانكا، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ التقصير الواضح في مجال إضفاء البُعد المؤسّساتيّ على آليّات نشر ثقافة تقبُّل الآخر، سواءٌ على المستوى الأكاديميّ أم على المستوى الإعلاميّ، ما زال يترافق لغاية يومنا الراهن مع تقصيرٍ فاضحٍ في أداء الأجهزة الاستخباراتيّة العالميّة في مجال محاربة الإرهاب وكبح جماحه، وإلّا لما كان من المقدَّر للإرهابيّين أن يحتفظوا بقدرتهم على التحرُّك بين دولةٍ وأخرى، وبين قارّةٍ وأخرى، بعيدًا عن الأنظار.
هذا الكلام، وإن كان المعنى الكامن في طيّاته يبدو انهزاميًّا إلى حدٍّ بعيدٍ، ولكنّ الغرض من ورائه يتمثَّل في وجوب التنويه ببديهيّةٍ مؤدّاها أنّ منطق التاريخ يُفترَض أن يكون قد علَّمنا أنّ كافّة الحروب التي عصفَت بالعالم في مراحلَ سابقةٍ دائمًا ما كانت تنتهي إمّا بانتصارٍ يُحرزه هذا الطرف على الطرف الآخر بشرفٍ، وإمّا بهزيمةٍ يتكبَّدها أحد الطرفين المتحاربين بشرفٍ أيضًا، الأمر الذي لا ينطبق بتاتًا على الحرب الدائرة رحاها في هذه الأيّام على الإرهاب، سواءٌ بنسختها الأميركيّة التي بدأت في أفغانستان على خلفيّة هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001 على برجيْ مركز التجارة العالميّ في نيويورك ومقرّ البنتاغون في واشنطن، أم بنسختها الروسيّة التي بدأت قبل ذلك التاريخ بقرابة العامين في الشيشان، ومن ثمّ في سوريا عام 2015، ولا سيّما بعدما بات في حُكم المؤكَّد أنّ الطامة الكبرى في أوجه التشابُه بين النسختين تتمثَّل في أنّ تسييس النسخة الأميركيّة من خلال إعلان الرئيس جورج دبليو بوش الشهير عن أنّ “من ليس معنا فهو مع الإرهاب” سرعان ما أدّى إلى ظهورِ نتائجَ عكسيّةٍ، فضلًا عن أنّه تسبَّب في إفساح المجال أمام الجماعات والتنظيمات والفصائل الإرهابيّة لكي تتكاثر وتوسِّع رقعة انتشارها في العالم، وهو التسييس الذي يبدو أنّ الروس يمارسونه في هذه الأيّام بإتقانٍ من خلال تحالفاتهم مع دولٍ تدرك موسكو تمام الإدراك أنّها دولٌ ضالعةٌ في رعاية الإرهاب وتسويقه، مثل تركيا، من دون الأخذ في الاعتبار أنّ تلك التحالفات أدَّت في الموازاة إلى تجريد الإدارة الروسيّة الكثير من عناصر هيبتها في حربها على الإرهاب، فضلًا عن أنّها أرسَت مفاهيمَ جديدةً للحروب، بحيث باتت الانتصارات تتحقَّق بالتراضي، والهزائم تُسجَّل بالتراضي، من دون أيِّ شرفٍ ولا من يحزنون.
على هذا الأساس، يصبح في الإمكان تفهُّم العوامل التي ما زالت تتيح للجماعات الإرهابيّة فرص التحرُّك بأريحيّةٍ والتنقُّل من مكانٍ إلى مكانٍ آخر على طول خارطة العالم وعرضها، ولا سيّما إذا أضفنا إلى ما تقدَّم أنّ التقصير الاستخباراتيّ الدوليّ الآنف الذكر، معطوفًا على تسيُّد منطق المصالح في حسابات الدول على أخلاقيّات القتال، يكاد يتحوَّل إلى إرهابٍ قائمٍ بحدِّ ذاته بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى في أحسن الأحوال والظروف.
ولكنّ السؤال الذي ينبغي طرحه في غمرة تداعيات هذه النظرة التشاؤميّة هو: هل يتّجه العالم بالفعل يا ترى إلى جحيمٍ محتَّمٍ تفرضه عليه كلّ هذه التطوُّرات المأساويّة الحالكة السواد؟
سؤالٌ، وإن بدا من الواضح أنّ الإجابة عنه لن تكون بمثل سهولة طرحه، ولكنّ التمعُّن قليلًا في بوادر المساعي الحميدة التي يتمّ بذلها من أجل إرساء مفاهيم ثقافة التعايُش والتسامُح وتقبُّل الآخر بين رعايا الأديان السماويّة، وآخرها ما تجلّى مؤخَّرًا في “وثيقة أبو ظبي” الموقَّعة بين بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر، لا بدَّ من أن يفتح نافذةً للتأمُّل في حقيقةٍ مؤدّاها أنّ العالم لا يزال بألفِ خيرٍ، علمًا أنّ الأمانة الأخلاقيّة تستوجب التأكيد على أنّ هذه الوثيقة التاريخيّة الهامّة ما زالت تحتاج إلى تفعيلها بشكلٍ عمليٍّ ومؤسّساتيٍّ، أكاديميًّا وإعلاميًّا، لكي لا يُقدَّر لها أن تبقى مجرَّد حبرٍ على ورقٍ… وحسبي أنّ ثمّة فرصةً سانحةً للتوّ لكي يصوِّب القيِّمون على رمزيّة الوثيقة رسائلهم التبشيريّة في اتّجاه نحو ألفٍ وأربعمئةِ مواطنٍ أستراليٍّ وقَّعوا في غضون الساعات القليلة الماضية على عريضةٍ تدعو إلى إلغاءِ مشروعٍ فنّيٍّ في مدينة ملبورن لرسمِ لوحةٍ جداريّةٍ بطول ثلاثةٍ وعشرينَ مترًا تجسِّد صورة رئيسة الوزراء النيوزيلنديّة جاسيندا أرديرن أثناء قيامها بمواساة إحدى السيّدات المسلمات في أعقاب مجزرة كرايست تشيرتش، ولا سيّما أنّ البيت في القصيد هنا يتمثَّل في أنّ التوجُّه بشكلٍ مباشِرٍ إلى ألفِ مواطنٍ هنا، وألفِ مواطنٍ هناك، يمكن أن يعطي البُعد المؤسّساتيّ المطلوب لأيِّ جهدٍ مشكورٍ يُبذل في هذا السياق، أملًا في جعل العالم أكثر أمانًا… والخير دائمًا من وراء القصد.