ليست اللغة المبتذلة والوضيعة التي ساقها عضو الوفد الرئاسي اللبناني إلى الأمم المتحدة الصحافي جوزيف أبو فاضل في رده على تغريدة لعضو البرلمان اللبناني النائبة بولا يعقوبيان خروجا كبيرا عن بذاءة راحت تسود الخطاب العام في لبنان منذ سنوات. وإذا أراد المرء أن يؤرخ لهذه البذاءة أو أن يجد لها سياقا نفسيا جماعيا فيمكن له أن يربطها بأفول راحت تشعر به طبقة سياسية لم تجد لغة تحاول عبرها صد هذا الأفول إلا البذاءة بصفتها سلاحا رادعا. والمرأة طبعا هدف نموذجي على هذا المستوى.
لكن ليست البذاءة وحدها من علامات أفول الزمن اللبناني، فانخفاض مستوى الذكاء في اللغة العامة اللبنانية، لاسيما تلك التي يخاطب عبرها السياسيون “شعوبهم”، هي سمة رئيسة تميز هذا الزمن، والعونيون بصفتهم من علامات هذا الزمن وهذا الأفول، يعودون ويتصدرون على هذا الصعيد. يقول وزير منهم في مدح سيده جبران باسيل: “هذا جبراننا فآتونا بمثله”، ويقول زميله النائب زياد أسود ردا على نتانياهو: “على إسرائيل أن تلعب foot لأنها على لبنان لن تـ foot!”؛ وطبعا صفق جمهور المقاومة من الطائفة الشيعية لهذا المسيحي الذي دحض ادعاءات نتانياهو، لكنه أشاح بوجهه حين ارتسمت ابتسامة خبيثة خلفتها عبارات النائب جديد النعمة على خيار الممانعة والمقاومة.
لن تخلف هذه البذاءة وهذه الركاكة ذهولا، ولن يخسر أصحابها رأيا عاما قد لا تعجبه البذاءة، ذاك أنه سيتولى تصريفها في وجدانه الآفل. لا شيء في لبنان يمكن أن يخلف ذهولا. لا ينكر أي من السياسيين انغماسه في كل أنواع المفاسد. الوزراء العونيون يفصلون موظفين دروزا من مناصبهم ردا على فصل وزير درزي موظفا مسيحيا. زعيم الدروز وليد جنبلاط يهدد الدولة إذا ما أقدمت على محاسبة ضابط فاسد لأن الأخير “محسوب عليه”، وفي هذا الوقت تسقط على رؤوس اللبنانيين فضيحة الفنان زياد عيتاني الذي اتهم زورا وعدوانا بعلاقته بالموساد. ولم يفض انكشاف الفضيحة إلى محاسبة الجهاز الأمني الذي حاك المؤامرة، فيومها ظهر جوزيف أبو فاضل نفسه، وقال على التلفزيون إن رئيس جهاز الأمن هذا مسيحي وممنوع محاسبته!
لكن من يتتبع هذه الوقائع من بعيد قد يتسلل إليه وهم بأن أبطالها أقوياء إلى حد يمكنهم من فرضها، وهذا ليس صحيحا على الإطلاق. اللغة السائدة هذه هي لغة ضعفاء لبنان، أما أقوياؤه فلا يشعرون بالحاجة إلى هذه البذاءة لتصريف قوتهم. حزب الله شديد التهذيب في خطابه اللبناني. شديد العنف والمراوغة والتعالي، إلا أنه لا يشعر بالحاجة إلى هذه البذاءة، ناهيك عن بعد أيديولوجي يمنعه من السقوط في هذا الإغراء.
لكن الحزب لا يضيره حليف بذيء، والأخير بدوره يشعر أن تحالفه مع الحزب القوي يحصنه من المحاسبة. وهذه لعبة يتبادلها الحزب والتيار منذ زمن طويل. والأمر لا يتعلق بشعور الحزب بالامتنان لما قدمه له التيار العوني من خدمات كبرى، إنما يتعداه لحقيقة أكثر خبثا؛ فالعونيون اليوم وبفعل حزب الله يحكمون لبنان، وهم إذ يفعلون ذلك يتولون تأمين نظام حكم أقلوي لا يؤمنه للحزب أقرب حلفائه الآخرين إليه، أي الرئيس نبيه بري وحركة أمل. هذا ما يفسر وقوف الحزب على الحياد في الخصومة بين ميشال عون ونبيه بري، وحياد الحزب أمد جبران بطاقة على تكرار الهجوم على بري.
للبذاءة أصل سوسيولوجي في لبنان، وهذا ليس على سبيل ذم التجربة الاجتماعية اللبنانية، بل على سبيل ملاحظة أن انتقالها من حيزها الضمني وغير المجاهر به إلى الحيز العام، واشتراكها مع ذكورية بشعة في خطاب “سياسي” لا يخلو من شرعية تمثيلية، هو خطوة يجب التوقف عندها. فما يجري هو مشهد أوسع لانهيار أخلاقي لم تعد السياسة تعتبره شرطا لاشتغالها. هو صورة عن فساد صار جوهريا، ولم يعد خروجا عن صورة اللبنانيين عن أنفسهم. ينطوي هذا الكلام على هجاء، إلا أنه ينطوي على حقيقة لا يمكن إنكارها. فجوزيف أبو فاضل يمكنه أن يترشح في الانتخابات المقبلة وأن يفوز. لا بل يمكن أن يكون ما قاله جزءا من برنامجه الانتخابي. وهذه الحقيقة هي امتداد لإداء أمراء الجماعات الأهلية في علاقتهم بالدولة وبالمال العام.
عندما تكف الأخلاق عن أن تكون شرطا شكليا في الأداء العام، يمكن للسياسي أن يفصل موظفي الطوائف الأخرى من وزارته، ويمكن لوزير الخارجية أن يقول عبارته الشهيرة في الأمم المتحدة: “وين هيي كارولين” راسما بيده ما يُفترض أنه يمثل إهانة لكل امرأة عادت وأقدمت على انتخابه على رغم فعلته. في زمن كهذا لا يبدو أن جوزيف أبو فاضل خروجا كبيرا عما تقبل به الشعوب اللبنانية.
الحرة