لم تتمالك الطالبة الجامعية نفسها من البكاء الحار، وهي تتلو يومياتها عن صديقتها التي حطم أهلها ساقها، لأنها أحبّت. قالت «لارا» والدموع تخضّب وجنتيها: نعم، لأنها أحبّت. وما كانت تدري أنّ الحبّ في هذا الزمان العربي، ممنوع، ومدعاة إلى ما هو أبعد من تحطيم السيقان والأذرع، بل تحطيم الحياة ذاتها، ونزع الروح من جسد العاشقة.
وفي معرض دفاعها عن صديقتها، قالت أنها أحبت ببراءة شاباً جيداً قام أهل الفتاة بتهديده إنّ هو ترك لقلبه أن يخفق في حب الفتاة ذات السبع عشرة سنة، والتي لم تقوَ أياماً طويلة على الذهاب إلى الجامعة إلا على عكازة.
وببراءة تضاهي براءة الفتاة ذات الساق المكسورة، تساءلت «لارا» عن القوانين التي تحمي الفتيات والنساء من العنف، وتضع حداً لـ «همجية» بعض الأهالي، واستباحتهم جسد الفتيات وأرواحهن، ووضعهن في جو من الرعب الذي جعل صورة الرجل في عيونهن مرادفاً للوحش المتعطش للانقضاض على فريسته الأنثى المسكينة.
الوعي المثالي الذي لم تعركه مصائب الأقوام العربية هو وحده الذي يذرف الدمع على حادثة كهذه، على ما فيها من أذى، وعلى ما تُشيعه من كراهية. لكنّ الواقع يرفدنا، كلّ لحظة، بما هو أبشع من ذلك، إذ تتحالف القوى، على اختلافها، من أجل سجن المرأة، وتكبيل إرادتها، وازدرائها، وجعلها تابعاً، وتحطيم طموحها قبل تحطيم أجنحتها، لتظل حبيسة المنزل، بل وما هو أضيق من ذلك: المطبخ، وغرفة النوم.
ولا يزال أفراد نابهون في المجتمع العربي يتجادلون في كون الموسيقى حلالاً أم حراماً، ما جعل الروح العربية أسيرة الجفاف والتصحر في العاطفة والوجدان، وبلا ريب في التفكير أيضاً. ففي حين تتسابق الشعوب «التي فتح الله عليها» في تدريس فنون الأداء على الآلات الموسيقية بشتى أنواعها، من أجل إنتاج جيل يملك الإحساس الفيّاض بالأنغام والألحان، نتسابق إلى تحريم الموسيقى، ومنع تدريسها، لأنها تفتح باب الشيطان، غير عالمين أنّ الموسيقى ما مسّت شيئاً إلا دبت في أوصاله العذوبة والرقة والحياة، ولعل هذا ما جعل سارتر يقول: «قررت أن أفقد القدرة على الكلام وأعيش في الموسيقى».
ومن يحرّم الموسيقى التي وصفها المتصوف جلال الدين الرومي بأنها «أزيز أبواب الجنة»، يعمل بقصد على تفريغ رئة الحياة من الهواء، بداعي الذهاب إلى الموت الصافي الذي يعادل الانقراض، لأنّ الدفاع عن العفة مهمة جهادية بامتياز.
والعفة تستدعي الكلام عن الشرف الذي قال فيه شعراء فحول بأنّ دونه الدماء. لكنّ أقواماً جاءت بعدهم جرّت المعنى من الشرف في معناه القومي الذي يتعلق بكرامة الأوطان، إلى الشرف بمعناه البيولوجي الضيق المختنق بتفسيرات معجونة بتأويلات فقهية ركيكة عن وجوب تحصين المجتمع من الفتنة المتصلة على نحو حصري بالمرأة.
يغدو تجريم الحب وتحريم الموسيقى جزءاً من منظومة الشرف بمعنييه الاجتماعي والديني، ويتبارى الذكور المدجّجون بالأوهام إلى ترجمة هذا التجريم وذلك التحريم في صور قاسية كتحطيم السيقان، وجعل آلة عود وقوداً لنار، لأنّ أنغامها حرضت النفس الأمّارة بالسوء على الوقوع في شراك الخطيئة.
هكذا، تتقدم أولويات الشرف والدفاع عنه، وتتزاحم من دون أي سياق أو منطق، ويتناسى القوم أنّ الدفاع عن الشرف يستدعي ما هو أهم من ذلك بكثير، أي احترام المواعيد، وتوقير الضعفاء، وعدم الرفث في الحديث، والتوقف عن سوق الأكاذيب، والمساهمة ولو بالقليل من أجل سدّ عوز جائع أو مريض أو محتاج. ويستدعي الشرف كذلك الإخلاص في العمل، وحماية الأسرار، والحرص على الممتلكات العامة، وإزالة الأذى من الطريق. ويستدعي في ما يستدعي أن يتسلح الإنسان بالعلم الحقيقي المتقدم والمعرفة العميقة التي تحفر وتحفّز وتضيء، من أجل فهم النصوص الدينية في إطار مقاصديتها النبيلة التي تحض على الخير والحق والعدل، وتقدّس الإبداع والابتكار، وتعمل، بلا ريب، على تأثيث الحياة بالأمل والجمال والرجاء.
* كاتب وأكاديمي أردني
الحياة اللندنية