عثمان ميرغني
على الرغم من كثرة المؤتمرات الصحافية، واللقاءات التنويرية، والتصريحات من الأطراف المعنية، فإن المشهد في السودان أبعد ما يكون عن الوضوح. هناك بلبلة واضحة، وتحركات مريبة، ونشاط متزايد لجهات تحرك ماكينة الشائعات في وسائل التواصل الاجتماعي بهدف تغذية الشكوك وضرب الثورة. في هذه الأجواء، فإن أكثر ما يثير القلق هو الفراغ الحاصل في ظل عدم الاتفاق بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير» على هياكل الحكم وآلياته في الفترة الانتقالية.
فالمجلس العسكري وإن أصدر عدداً من القرارات، أو بدا ممسكاً بزمام «السيادة»، إلا أنه يتحرك في أضيق الحدود، ولا يمارس مهام الحكم الفعلي بكل تفرعاته وتشعباته سواء على المستوى الرئاسي، أو المستوى التنفيذي. هذا لا يعني أن المجلس لا يريد، بل لا يستطيع؛ لأن انتزاع هذه المهام معناه الدخول في مواجهة مكلفة مع «قوى الحرية والتغيير»، والشارع المتحفز.
من دون ملء الفراغ لن تبدأ الأوضاع في الاستقرار لإدارة ملفات المرحلة الانتقالية الصعبة أو تهيئة الأجواء للانتقال إلى مرحلة الحكم الديمقراطي المنتخب. وكلما طالت فترة الانتظار ازدادت العقبات، وبرزت الخلافات، وتراكمت الشكوك التي توجد جهات كثيرة تعمل لتغذيتها، في مقدمتها الدولة العميقة التي لم يبدأ تفكيكها بشكل جدي حتى اللحظة. «قوى الحرية والتغيير» تتهم المجلس العسكري الذي يتهمها بالبطء وعدم وضوح الرؤية، بأنه يماطل في نقل السلطة إلى حكم مدني، ويحاول انتزاع صلاحيات لتعزيز موقعه، بينما يخطط لفض الاعتصام الذي يشكل عامل الضغط الأكبر على المجلس. هذه الشكوك والاتهامات لها ما يعززها سواء في بعض التصريحات الصادرة عن قادة المجلس، أو في الإصرار على تشتيت الأطراف وتوسيع دائرة المشاورات لتشمل قوى خارجة من رحم النظام، أو لا وزن حقيقياً لها، أو لا معنى أصلاً لإشراكها في الحوار.
المجلس العسكري صبّ كذلك المزيد من الزيت على نيران الغضب والشكوك بتصريحات مثل تلك التي قال فيها نائب رئيس المجلس محمد محمدان دقلو (حميدتي): من فوض وفد «قوى الحرية والتغيير» للتفاوض باسم الشعب، أو تلك التي هدد فيها «بحسم الفوضى»، وهي تصريحات تأتي بعدما كشف عن أن المجلس طلب من الوفد أن يعود إليه المرة القادمة ومعه قائمة موقعة من القوى التي يتفاوض نيابة عنها.
المجلس يرتكب خطأ كبيراً عندما يحاول التشكيك في شرعية وفد «قوى الحرية والتغيير»؛ لأن منبع هذه الشرعية واحد للطرفين، وهو الثورة، بل إن شرعية وفد «قوى الحرية والتغيير» وفي مقدمتها تجمع المهنيين، أقوى باعتبارها الجهة التي قادت الحراك ووصلت به إلى اعتصام السادس من أبريل (نيسان) الماضي الذي زلزل نظام البشير ودفع الجيش للتحرك والانحياز إلى جانب الشعب الثائر، بعد قرابة أربعة أشهر ظل فيها مكتوف الأيدي بينما كانت أجهزة النظام الأمنية وكتائب ظله تمارس أبشع أنواع القمع ضد المتظاهرين السلميين حتى بلغ عدد من قتلوا في تلك الفترة قرابة المائة شخص.
ما المخرج من الورطة الراهنة؟
العقبة الكبرى في الوقت الراهن تتمثل في كيفية حل عقدة تشكيل مجلس السيادة، ومن دون حلها يصعب القفز إلى إعلان الحكومة. صحيح هناك من يرى أن الحكومة يمكن إعلانها على وجه السرعة للاضطلاع بالمهام التنفيذية وتسيير عجلة الدولة، بينما يستمر التفاوض حول المجلس السيادي. هناك مشكلتان أمام هذا الأمر؛ الأولى إجرائية والثانية احترازية. بالنسبة للأولى، فإن مجلس السيادة يفترض، إلى جانب تمثيله السودان أمام المجتمع الدولي ومهامه الأخرى، أن يكون الجهة التي تجيز الحكومة إن لم تقم بتشكيلها في الأساس، ويتولى لاحقاً تغيير أو تعيين أعضاء في الحكومة إذا اقتضت الضرورة وشغر منصب لأي سبب. لهذا؛ يصعب تشكيل الحكومة والقفز على موضوع مجلس السيادة.
المسألة الاحترازية تتمثل في أن «قوى الحرية والتغيير» لو أعلنت الحكومة باتفاق أو من دونه، وبقي المجلس العسكري مكانه إلى حين حل عقدة مجلس السيادة، فما الذي يضمن لها لاحقاً التوصل إلى حل مُرضٍ. فمع إعلان الحكومة قد يحدث تراخٍ في الشارع وينفض الاعتصام مع مرور الوقت، فتفقد «قوى الحرية والتغيير» ورقتها القوية في التفاوض. من هذا المنطلق؛ فإن هذه القوى ربما ترى أن الاتفاق على مجلس السيادة وإعلان تشكيلته، يجب أن يسبق إعلان الحكومة أو يكون متزامناً معه. في الوقت ذاته، فإنها ترفض رفضاً قاطعاً أن تجعل المجلس العسكري الجهة التي تجيز تشكيلة الحكومة أو تفرضها؛ لأن ذلك معناه الإقرار بالتنازل له عن سلطة السيادة.
قوى الحرية والتغيير تتمسك بأن يكون مجلس السيادة مدنياً بتمثيل عسكري محدود، بينما يعرض المجلس العسكري ضم ثلاثة مدنيين إلى تركيبته الحالية التي تتكون من سبعة ضباط بعد «استقالة» ثلاثة بضغط من الشارع الثائر. هذه الهوة بين الطرفين إذا لم يتم ردمها فإنها تسير بالأمور نحو مواجهة لا يريدها الطرفان، لكنها تصبح واردة مع مرور الوقت وزيادة التعبئة والاحتقان في الشارع.
إذا قسنا الأمور بمعيار مصلحة البلد التي يجب أن تقدم على أي اعتبار آخر، فإن هذه العقدة ينبغي أن تحل في أسرع وقت. وبهذا المعيار ذاته يمكن القول إن من مصلحة السودان أن تكون واجهته السيادية أمام العالم مدنية وليست عسكرية. فحتى إذا حدث اتفاق على أن تكون عضوية المجلس مناصفة بين الطرفين للخروج من المأزق الراهن، ينبغي أن يكون رئيس المجلس والصوت المرجح فيه مدنياً، بمعنى أن يكون المجلس مكوناً من سبعة مثلاً، ثلاثة مدنيين وثلاثة عسكريين ورئيس مدني من المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة. ولو أصر العسكريون على رئاسته يكون الحل أن يستقيل المرشح من الخدمة العسكرية ويبقى محسوباً على حصتهم، التي تبقى ثلاثة، مقابل أربعة مدنيين. ولا أشك أنه ستكون هناك اقتراحات أخرى كثيرة قد يكون من بينها حل أفضل ومقبول لتجاوز هذه العقبة.
تعبير «الحصة وطن» الذي نسمعه كثيراً هذه الأيام لا ينبغي أن يكون مجرد شعار، بل ممارسة حقيقية من أجل انتشال السودان من الحفرة التي تردى إليها بعد ثلاثين عاماً تقريباً من حكم الإسلامويين وحلفائهم من العسكريين. بعيداً عن عقدة المجلس السيادي، هناك كثيرون يحاولون ركوب هذه الثورة، أو تجييرها لشخوصهم، أو يسعون للمناصب من ورائها، وهؤلاء ينبغي الحذر منهم. فمهما كانت تضحيات الأشخاص، يفترض أنها ليست لمنفعة شخصية، بل عمل خالص من أجل وطن عانى طويلاً وينتظر الآن لحظة بدء النهوض من كبوته. لذلك؛ يحزن المرء لحال أولئك الذين تعلو أصواتهم هذه الأيام مطالبين بتمثيلهم في وفد المفاوضات أو في هياكل الحكم للمرحلة الانتقالية. بدلاً من هذه الأصوات كم كنت أتمنى لو أننا نسمع أن كل من يريد شغل منصب في المرحلة الانتقالية يلتزم بعدم الترشح لمدة دورة برلمانية في أول انتخابات عامة تجرى. هذه هي الروح التي يمكن أن تعبّر عن نقاء هذه الثورة وروح الشباب الذين ضحوا من أجلها بالكثير من دون أن يطلبوا سوى الأمل بمستقبل أفضل خالٍ من أمراض الماضي.
فالمجلس العسكري وإن أصدر عدداً من القرارات، أو بدا ممسكاً بزمام «السيادة»، إلا أنه يتحرك في أضيق الحدود، ولا يمارس مهام الحكم الفعلي بكل تفرعاته وتشعباته سواء على المستوى الرئاسي، أو المستوى التنفيذي. هذا لا يعني أن المجلس لا يريد، بل لا يستطيع؛ لأن انتزاع هذه المهام معناه الدخول في مواجهة مكلفة مع «قوى الحرية والتغيير»، والشارع المتحفز.
من دون ملء الفراغ لن تبدأ الأوضاع في الاستقرار لإدارة ملفات المرحلة الانتقالية الصعبة أو تهيئة الأجواء للانتقال إلى مرحلة الحكم الديمقراطي المنتخب. وكلما طالت فترة الانتظار ازدادت العقبات، وبرزت الخلافات، وتراكمت الشكوك التي توجد جهات كثيرة تعمل لتغذيتها، في مقدمتها الدولة العميقة التي لم يبدأ تفكيكها بشكل جدي حتى اللحظة. «قوى الحرية والتغيير» تتهم المجلس العسكري الذي يتهمها بالبطء وعدم وضوح الرؤية، بأنه يماطل في نقل السلطة إلى حكم مدني، ويحاول انتزاع صلاحيات لتعزيز موقعه، بينما يخطط لفض الاعتصام الذي يشكل عامل الضغط الأكبر على المجلس. هذه الشكوك والاتهامات لها ما يعززها سواء في بعض التصريحات الصادرة عن قادة المجلس، أو في الإصرار على تشتيت الأطراف وتوسيع دائرة المشاورات لتشمل قوى خارجة من رحم النظام، أو لا وزن حقيقياً لها، أو لا معنى أصلاً لإشراكها في الحوار.
المجلس العسكري صبّ كذلك المزيد من الزيت على نيران الغضب والشكوك بتصريحات مثل تلك التي قال فيها نائب رئيس المجلس محمد محمدان دقلو (حميدتي): من فوض وفد «قوى الحرية والتغيير» للتفاوض باسم الشعب، أو تلك التي هدد فيها «بحسم الفوضى»، وهي تصريحات تأتي بعدما كشف عن أن المجلس طلب من الوفد أن يعود إليه المرة القادمة ومعه قائمة موقعة من القوى التي يتفاوض نيابة عنها.
المجلس يرتكب خطأ كبيراً عندما يحاول التشكيك في شرعية وفد «قوى الحرية والتغيير»؛ لأن منبع هذه الشرعية واحد للطرفين، وهو الثورة، بل إن شرعية وفد «قوى الحرية والتغيير» وفي مقدمتها تجمع المهنيين، أقوى باعتبارها الجهة التي قادت الحراك ووصلت به إلى اعتصام السادس من أبريل (نيسان) الماضي الذي زلزل نظام البشير ودفع الجيش للتحرك والانحياز إلى جانب الشعب الثائر، بعد قرابة أربعة أشهر ظل فيها مكتوف الأيدي بينما كانت أجهزة النظام الأمنية وكتائب ظله تمارس أبشع أنواع القمع ضد المتظاهرين السلميين حتى بلغ عدد من قتلوا في تلك الفترة قرابة المائة شخص.
ما المخرج من الورطة الراهنة؟
العقبة الكبرى في الوقت الراهن تتمثل في كيفية حل عقدة تشكيل مجلس السيادة، ومن دون حلها يصعب القفز إلى إعلان الحكومة. صحيح هناك من يرى أن الحكومة يمكن إعلانها على وجه السرعة للاضطلاع بالمهام التنفيذية وتسيير عجلة الدولة، بينما يستمر التفاوض حول المجلس السيادي. هناك مشكلتان أمام هذا الأمر؛ الأولى إجرائية والثانية احترازية. بالنسبة للأولى، فإن مجلس السيادة يفترض، إلى جانب تمثيله السودان أمام المجتمع الدولي ومهامه الأخرى، أن يكون الجهة التي تجيز الحكومة إن لم تقم بتشكيلها في الأساس، ويتولى لاحقاً تغيير أو تعيين أعضاء في الحكومة إذا اقتضت الضرورة وشغر منصب لأي سبب. لهذا؛ يصعب تشكيل الحكومة والقفز على موضوع مجلس السيادة.
المسألة الاحترازية تتمثل في أن «قوى الحرية والتغيير» لو أعلنت الحكومة باتفاق أو من دونه، وبقي المجلس العسكري مكانه إلى حين حل عقدة مجلس السيادة، فما الذي يضمن لها لاحقاً التوصل إلى حل مُرضٍ. فمع إعلان الحكومة قد يحدث تراخٍ في الشارع وينفض الاعتصام مع مرور الوقت، فتفقد «قوى الحرية والتغيير» ورقتها القوية في التفاوض. من هذا المنطلق؛ فإن هذه القوى ربما ترى أن الاتفاق على مجلس السيادة وإعلان تشكيلته، يجب أن يسبق إعلان الحكومة أو يكون متزامناً معه. في الوقت ذاته، فإنها ترفض رفضاً قاطعاً أن تجعل المجلس العسكري الجهة التي تجيز تشكيلة الحكومة أو تفرضها؛ لأن ذلك معناه الإقرار بالتنازل له عن سلطة السيادة.
قوى الحرية والتغيير تتمسك بأن يكون مجلس السيادة مدنياً بتمثيل عسكري محدود، بينما يعرض المجلس العسكري ضم ثلاثة مدنيين إلى تركيبته الحالية التي تتكون من سبعة ضباط بعد «استقالة» ثلاثة بضغط من الشارع الثائر. هذه الهوة بين الطرفين إذا لم يتم ردمها فإنها تسير بالأمور نحو مواجهة لا يريدها الطرفان، لكنها تصبح واردة مع مرور الوقت وزيادة التعبئة والاحتقان في الشارع.
إذا قسنا الأمور بمعيار مصلحة البلد التي يجب أن تقدم على أي اعتبار آخر، فإن هذه العقدة ينبغي أن تحل في أسرع وقت. وبهذا المعيار ذاته يمكن القول إن من مصلحة السودان أن تكون واجهته السيادية أمام العالم مدنية وليست عسكرية. فحتى إذا حدث اتفاق على أن تكون عضوية المجلس مناصفة بين الطرفين للخروج من المأزق الراهن، ينبغي أن يكون رئيس المجلس والصوت المرجح فيه مدنياً، بمعنى أن يكون المجلس مكوناً من سبعة مثلاً، ثلاثة مدنيين وثلاثة عسكريين ورئيس مدني من المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة. ولو أصر العسكريون على رئاسته يكون الحل أن يستقيل المرشح من الخدمة العسكرية ويبقى محسوباً على حصتهم، التي تبقى ثلاثة، مقابل أربعة مدنيين. ولا أشك أنه ستكون هناك اقتراحات أخرى كثيرة قد يكون من بينها حل أفضل ومقبول لتجاوز هذه العقبة.
تعبير «الحصة وطن» الذي نسمعه كثيراً هذه الأيام لا ينبغي أن يكون مجرد شعار، بل ممارسة حقيقية من أجل انتشال السودان من الحفرة التي تردى إليها بعد ثلاثين عاماً تقريباً من حكم الإسلامويين وحلفائهم من العسكريين. بعيداً عن عقدة المجلس السيادي، هناك كثيرون يحاولون ركوب هذه الثورة، أو تجييرها لشخوصهم، أو يسعون للمناصب من ورائها، وهؤلاء ينبغي الحذر منهم. فمهما كانت تضحيات الأشخاص، يفترض أنها ليست لمنفعة شخصية، بل عمل خالص من أجل وطن عانى طويلاً وينتظر الآن لحظة بدء النهوض من كبوته. لذلك؛ يحزن المرء لحال أولئك الذين تعلو أصواتهم هذه الأيام مطالبين بتمثيلهم في وفد المفاوضات أو في هياكل الحكم للمرحلة الانتقالية. بدلاً من هذه الأصوات كم كنت أتمنى لو أننا نسمع أن كل من يريد شغل منصب في المرحلة الانتقالية يلتزم بعدم الترشح لمدة دورة برلمانية في أول انتخابات عامة تجرى. هذه هي الروح التي يمكن أن تعبّر عن نقاء هذه الثورة وروح الشباب الذين ضحوا من أجلها بالكثير من دون أن يطلبوا سوى الأمل بمستقبل أفضل خالٍ من أمراض الماضي.
الشرق الأوسط