خيرالله خيرالله
هذه سنة مهمّة في لبنان. إنّها سنة ذكرى مرور نصف قرن على بداية السقوط اللبناني وصولا إلى ما وصل إليه البلد من حال يرثى لها. ليس الهجوم الذي شنّه الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله على المملكة العربية السعودية ودول الخليج قبل أيّام قليلة سوى تتويج آخر لما آل إليه الوضع اللبناني حيث سياسة غياب المنطق هي السائدة.
ليس معروفا ما الذي يمكن للبنان أن يجنيه من انضمامه إلى محور الممانعة الذي تقوده إيران باستثناء البؤس والفقر وجعل كلّ لبناني يبحث عن مكان خارج لبنان لأبنائه. هذا يشمل أبناء الطائفة الشيعية أيضا حيث بدأ يظهر تململ واضح من عجز “حزب الله” عن صرف الرواتب التي كان يخصصها لعناصره وأفراد عائلاتهم وللمؤسسات التي كانت تروّج لأفكاره وتقدّم بعض الخدمات.
كلّ ما فعله الحزب، إلى يومنا هذا يصبّ في قيام اقتصاد ريعي ينمو على حساب الدولة اللبنانية ومؤسساتها وأبناء الطائفة في الوقت ذاته. يستهدف مثل هذا الاقتصاد القضاء على الاقتصاد اللبناني. يستهدف عمليا إفقار لبنان وتحويله إلى بلد منبوذ عربيا ودوليا. في الواقع، ليس ما فعله وما زال يفعله “حزب الله” سوى نشر لثقافة الموت في بلد طُبع أبناؤه على ثقافة الحياة.
تكفي مقارنة لما كان عليه لبنان في الماضي، عندما كان يقصده الخليجيون، لتمضية عطلهم فيه ولبنان الحالي للتأكّد من أنّ لبنان ليس سوى لبنان آخر بعدما حولته إيران إلى “ساحة” لا أكثر. فمن لبنان تبثّ القناة التي أنشأها الحوثيون في اليمن. ومن لبنان تبث غير فضائية موجهة إلى هذه الدولة الخليجية العربية أو تلك وتبثّ سموم الترويج للانقسامات المذهبية. في المقابل، كانت هناك مساهمة خليجية فاعلة في كلّ وقت من أجل تحسين وضع البنية التحتية اللبنانية فضلا عن تنشيط السياحة وقطاع الخدمات في مجالات شتى.
لم يعد لبنان مشكلة عربية وخليجية فحسب، بل أصبح لبنان مشكلة لبنانية أيضا. هناك الأمين العام لـ”حزب الله”، وهو لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، عناصره لبنانية، يهاجم السعودية ويحيي ذكرى مصطفى بدر الدين الذي يقف على رأس لائحة المتهمين باغتيال رفيق الحريري. ليس إحياء ذكرى مصطفى بدر الدين سوى دليل على أن “حزب الله” مصرّ على تحويل لبنان إلى تابع لإيران في وقت ليس للنظام القائم في هذا البلد منذ العام 1979 ما يصدّره سوى البؤس والخراب.
لا خيار آخر أمام لبنان سوى العودة إلى لغة المنطق والتعقّل بدل السقوط في فخّ المزايدات. لا يبدو أن مدة نصف قرن كانت كافية كي يتعلّم اللبنانيون شيئا عن بلدهم الذي كان مزدهرا في الماضي وأسباب هذا الازدهار. لعلّ أول ما يفترض بهم تعلّمه أن الذهنية التي أوصلت إلى اتفاق القاهرة ما زالت هي الذهنية السائدة. حاول لبنان، الذي تخلّى في العام 1969 عن جزء من سيادته للمنظمات الفلسطينية المسلّحة، التعايش مع الضغوط التي مورست عليه عربيا.
ليس صحيحا أن جمال عبدالناصر الذي رعى اتفاق القاهرة الذي وقعه ياسر عرفات مع قائد الجيش اللبناني إميل بستاني، الطامح إلى رئاسة الجمهورية، تعلّم شيئا من هزيمة 1967. لو تعلّم ناصر القليل القليل من تلك الهزيمة، لكان أخذ موقف رجل الدولة الذي يقول صراحة إنّه يرفض تعريض لبنان لخطر الانهيار بسبب تشريع السلاح الفلسطيني. ما لبث هذا السلاح أن انتشر في كلّ الأراضي اللبنانية وصولا إلى حرب السنتين في 1975 و1976 ثمّ الاجتياح الإسرائيلي في 1982، وهو اجتياح أسّس لحلول السلاح الإيراني مكان السلاح الفلسطيني.
لا يزال الأمل مفقودا في الوصول إلى حدّ أدنى من لغة المنطق على الصعيد اللبناني ما دام هناك سلاح غير شرعي يفرض نفسه بقوة على القرار السياسي ويمنع أيّ سعي جدّي إلى استعادة الأمل بقيام دولة طبيعية. ليس الموقف المضحك – المبكي لعدد لا بأس به من المسؤولين اللبنانيين من مزارع شبعا سوى دليل على غياب الدولة التي تعي تماما أين مصلحتها. قصة مزارع شبعا هي قصة تجارة بتجارة. هناك من يعتبر أن المتاجرة بلبنان وبمزارع شبعا مفيد له. هذا ما فعله النظام السوري في الماضي وهذا ما تفعله إيران حاليا.
إذا وضعنا جانبا الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي قال أخيرا الكلام الذي يجب قوله عن مزارع شبعا، ليس هناك ما يوحي بأنّ هناك من يسعى إلى التصدّي لمنطق اللامنطق. فالرئيس سعد الحريري يجد نفسه حاليا في وضع دقيق.
هناك موازنة مطلوب تمريرها وهناك شروط معيّنة لا بدّ من توافرها من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نتائج مؤتمر “سيدر” الذي أقرّ مساعدات للبنان. الثابت أن حصول لبنان على مساعدات، هو في حاجة ماسة إليها، مرتبط إلى حدّ كبير بإصلاحات محددة ومشاركة بين القطاعين العام والخاص وقبل أي شيء آخر المصالحة مع المنطق.
الأكيد أن البداية لا تكون بمهاجمة المملكة العربية السعودية. لا منطق في ذلك، مثلما أن لا منطق في اعتبار مزارع شبعا لبنانية. نعم هناك أراض يملكها لبنانيون في مزارع شبعا. لكنّ هذه المزارع محتلة إسرائيليا منذ العام 1967 نظرا إلى أنّها كانت سورية وقتذاك. دخل السوريون إلى مزارع شبعا في منتصف خمسينات القرن الماضي بحجة مكافحة التهريب من جهة والتصدي لإسرائيل من جهة أخرى.
ينطبق على مزارع شبعا القرار 242 وليس القرار 425 الذي نفّذته إسرائيل في العام 2000 بشهادة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. إذا كان لبنان جديا في استعادة مزارع شبعا، ليس أمامه سوى الطلب من النظام السوري توجيه رسالة إلى الأمم المتحدة في هذا الشأن. هذا هو الطريق السليم الواجب اتباعه ولا وجود لطريق آخر.
ليس أمام لبنان حاليا سوى التصالح مع المنطق والاعتراف بأنّ مشكلته الأساسية تكمن في أنّه لا يزال يعيش في ظلّ اتفاق القاهرة. صحيح أن مجلس النواب ألغى هذا الاتفاق في عهد الرئيس أمين الجميّل، لكن الصحيح أيضا أنّ مفاعيل هذا الاتفاق ما زالت حيّة ترزق. لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان ذلك الخطاب الأخير لحسن نصرالله عن القدرة على تحقيق انتصارات على إسرائيل في حين أن الانتصارات التي يستطيع “حزب الله” تحقيقها هي انتصارات على السوريين واللبنانيين.
لا يزال لبنان، للأسف، أسير منطق يعتقد أنّ مسلّحين فلسطينيين أقاموا قواعد في منطقة العرقوب التي سميّت “فتح لاند” في جنوب لبنان سيحرّرون فلسطين… كل فلسطين. كانت النتيجة تحرير لبنان من اللبنانيين. لا يزال المنطق الأعوج الذي ساد في 1969، لدى توقيع اتفاق القاهرة، سائدا في 2019… ولا يزال لبنان ضحية منطق اللامنطق!